قوله تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } الآية . اختلفوا فيه ، قال ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء . وقال مجاهد : بلعام بن باعور . وقال عطية عن ابن عباس : كان من بني إسرائيل ، وروي عن علي بن أبي طلحة رضي الله عنه : أنه كان من الكنعانيين ، من مدينة الجبارين . وقال مقاتل : هو من مدينة بلقا . وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس ، وابن إسحاق ، والسدي ، وغيرهم : أن موسى لم قصد حرب الجبارين ، ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام ، أتي قوم بلعم إلى بلعم وكان عنده اسم الله الأعظم فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جند كثير ، وأنه جاء يخرجنا من بلادنا ، ويقتلنا ، ويحلها بني إسرائيل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله أن يردهم عنا ؟ فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون ، كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم ؟ وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ، فراجعوه وألحوا عليه فقال : حتى أؤامر ربي ، وكان لا يدعوه حتى ينظر ما يؤمر به في المنام ، فآمر في الدعاء عليهم ، فقيل له في المنام : لا تدع عليهم ، فقال لقومه : إني قد آمرت ربي ، وإني قد نهيت ، فأهدوا إليه هدية فقبلها ، ثم راجعوه فقال : حتى أؤامر ربي ، فآمر فلم يوح إليه شيء ، فقال : قد أمرت ، فلم يوح إلي شيء ، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى ، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن ، فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على معسكر بني إسرائيل يقال له حسبان ، فلما سار عليها غير كثير ربضت به ، فنزل عنها ، فضربها ، حتى إذا أذلقها قامت ، فركبها ، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت ، ففعل بها مثل ذلك ، فقامت ، فركبها ، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت ، وضربها حتى أذلقها ، أذن الله لها بالكلام ، فكلمته حجةً عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب بي ؟ ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا ؟ أتذهب بي إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم ؟ فلم ينزع ، فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان جعل يدعو عليهم ، ولا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل ، فقال له قومه : يا بلعم أتدري ماذا تصنع ؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا ؟ فقال : هذا ما لا أملكه ، هذا شيء قد غلب الله عليه ، فاندلع لسانه ، فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة ، فلم يبق إلا المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، جملوا النساء ، وزينوهن ، وأعطوهن السلع ، ثم أرسلوهن إلى المعسكر يبعنها فيه ، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زنا رجل واحد منهم كفيتموهم ، ففعلوا ، فلما دخل النساء المعسكر مرت امرأة من الكنعانيين ، اسمها كستى بنت صور ، برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب ، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى ، فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك ؟ قال : أجل ، هي حرام عليك ، لا تقربها ، قال : فوالله لا أطيعك في هذا ، ثم دخل بها قبته ، فوقع عليها ، فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت ، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى ، وكان رجلاً قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش ، وكان غائباً حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع ، فجاء والطاعون يجوس بني إسرائيل ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ، ثم دخل عليهما القبة ، وهما متضاجعان ، فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه ، واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لحيته ، وكان بكر العيزار ، وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ، ورفع الطاعون ، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون في ما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار ، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الفشة ، والذراع ، واللحى ، لاعتماده بالحربة على خاصرته ، وأخذه إياها بذراعه ، وإسناده إياها إلى لحيته ، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم ، لأنه كان بكر العيزار ، وفي بلعم أنزل الله تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } الآية . وقال مقاتل : إن ملك البلقاء قال لبلعام : ادع الله على موسى ، فقال : إنه من أهل ديني ، لا أدعو عليه ، فنحت خشبة ليصلبه ، فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه ، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها ، فقالت : لم تضربني ؟ إني مأمورة ، وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي ، فرجع فأخبر الملك فقال : لتدعون عليه ، أو لأصلبنك ، فدعا على موسى بالاسم الأعظم : أن لا يدخل المدينة ، فاستجيب له ، ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه ، فقال موسى : يا رب ، بأي ذنب وقعنا في التيه ؟ فقال : بدعاء بلعام ، قال : فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه ، فدعا موسى عليه السلام أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان ، فنزع الله عنه المعرفة ، وسلخه منها ، فخرجت منه صورة كحمامة بيضاء ، فذلك قوله : { فانسلخ منها } .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم ، وليث بن أسعد : نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وكانت قصته : أنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً ، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم حسده ، وكفر به ، وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة ، وكان قصد بعض الملوك ، فلما رجع مر على قتلى بدر ، فسأل عنهم فقيل : قتلهم محمد ، فقال : لو كان نبياً ما قتل أقرباءه . فلما مات أمية أتت أخته فازعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها ، فقالت : بينما هو راقد أتاه آتيان ، فكشفا سقف البيت ، فنزلا ، فقعد أحدهما عند رجليه ، والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : أوعى ؟ قال : وعى ، قال : أزكى ؟ قال : أبى ، قالت : فسألته عن ذلك فقال : خير أريد بي ، فصرف عني فغشي عليه ، فما أفاق قال شعرا :
كل عيش وإن تطاول دهراً *** صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي *** في قلال الجبار أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم *** شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً
ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشديني من شعر أخيك ، فأنشدته بعض قصائده ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمن شعره ، وكفر قلبه فأنزل الله عز وجل : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } الآية .
وفي رواية عن ابن عباس : أنها نزلت في البسوس ، رجل من بني إسرائيل ، وكان قد أعطي له ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها دعوة ، فقال : لك منها واحدة ، فما تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا لها فجعلت أجمل النساء في بني إسرائيل ، فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، فغضب الزوج ودعا عليها ، فصارت كلبةً نباحة ، فذهبت فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة نباحة ، والناس يعيروننا بها ، ادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ؟ فدعا الله فعادت كما كانت ، فذهبت فيها الدعوات كلها . والقولان الأولان أظهر .
وقال الحسن بن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله ، فذلك قوله : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } قال ابن عباس والسدي : اسم الله الأعظم . قال ابن زيد : كان لا يسأل شيئاً إلا أعطاه . وقال ابن عباس في رواية أخرى : أوتي كتاباً من كتب الله فانسلخ ، أي : خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها .
175-178 وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا أي : علمناه كتاب اللّه ، فصار العالم الكبير والحبر النحرير .
فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي : انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه ، فإن العلم بذلك ، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات ، فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره ، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب ، وخلعها كما يخلع اللباس .
فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان ، أي : تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين ، وصار إلى أسفل سافلين ، فأزه إلى المعاصي أزا .
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ بعد أن كان من الراشدين المرشدين .
وهذا لأن اللّه تعالى خذله ووكله إلى نفسه ، فلهذا قال تعالى : وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
{ واتل عليهم } أي على اليهود . { نبأ الذي آتيناه آياتنا } هو أحد علماء بني إسرائيل ، أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان ، ورجا أن يكون هو فلما بعث محمد عليه السلام حسده وكفر به ، أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله ، { فانسلخ منها } من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها . { فأتبعه الشيطان } حتى لحقه وقيل استتبعه . { فكان من الغاووين } فصار من الضالين . روي أن قومه سألوه أن يدعو على موسى ومن معه فقال : كيف أدعو على من معه الملائكة ، فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه .
أعقب ما يُفيد أن التوحيد جعل في الفطرة بذكر حالة اهتداء بعض الناس إلى نبذ الشرك في مبدأ أمره ثم تعرّض وساوس الشيطان له بتحسين الشرك .
ومناسبتُها للتي قبلها إشارة العبرة من حال أحد الذين أخذ الله عليهم العهد بالتوحيد والامتثال لأمر الله ، وأمده الله بعلم يعينه على الوفاء بما عاهد الله عليه في الفطرة ، ثم لم ينفعه ذلك كله حين لم يقدر الله له الهدى المستمر .
وشأن القصص المفتتحة بقوله : { واتل عليهم } أن يقصد منها وعظ المشركين بصاحب القصة بقرينة قوله : { ذلك مثل القوم } الخ ، ويحصل من ذلك أيضاً تعليم مثل قوله : { واتل عليهم نبأ نوحٍ } [ يونس : 71 ] { واتل عليهم نبأ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] { نَتْلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق } [ القصص : 3 ] ونظائر ذلك ، فضمير { عليهم } راجع إلى المشركين الذين وجهت إليهم العبر والمواعظ من أول هذه السورة ، وقصت عليهم قصص الأمم مع رسلهم ، على أن توجيه ضمائر الغيبة إليهم أسلوب متبع في مواقع كثيرة من القرآن ، كما قدّمناه غير مرة ، فهذا من قبيل رد العجُز على الصدر .
ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قوماً تغلب عليهم الأمية فأراد الله أن يبلّغ إليهم من التعليم ما يُساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة ، فالضمير المجرور ب ( على ) عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون ، وكثيراً ما يجيء ضمير جمع الغائب في القرآن مراداً به المشركون كقوله : { عم يتساءلون } [ النبأ : 1 ] .
وظاهر اسم الموصول المفرد أن صاحب الصلة واحد معيّن ، وأن مضمون الصلة حال من أحواله التي عرف بها ، والأقرب أن يكون صاحب هذا النبأ ممّن للعرب إلمام بمجمل خبره .
فقيل المعنى به أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وروي هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، بأسانيد كثيرة عند الطبري ، وعن زيد بن أسلم ، وقال القرطبي في « التفسير » هو الأشهر ، وهو قول الأكثر ذلك أن أمية بن أبي الصلت الثقفي كان ممن أراد اتباع دين غير الشرك طالباً دين الحق ، ونظر في التوراة والإنجيل فلم ير النجاة في اليهودية ولا النصرانية ، وتزهّد وتوخّى الحنيفية دينَ إبراهيم ، وأخبر أن الله يبعث نبيّاً في العرب ، فطمع أن يكونَه ، ورفض عبادة الأصنام ، وحرم الخمر ، وذكر في شعره أخباراً من قصص التوراة ، ويروى أنه كانت له إلهامات ومكاشفات وكان يقول :
كُل دين يومَ القيامة عند *** اللَّه إلا دين الحنيفيةُ زُورُ
وله شعر كثير في أمورٍ إلآهية ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أسف أن لم يكن هو الرسول المبعوث في العرب ، وقد اتفق أن خرج إلى البحرين قبل البعثة وأقام هنالك ثمان سنين ثم رجع إلى مكة فوجد البعثة ، وتردد في الإسلام ، ثم خرج إلى الشام ورجع بعد وقعة بدر فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حسداً ، ورثى من قُتل من المشركين يومَ بدر ، وخرج إلى الطائف بلاد قومه فمات كافراً .
وكان يذكر في شعره الثواب والعقاب واسم الله وأسماء الأنبياء ، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم " كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم " وروي عن أمية أنه قال لما مرِض مَرض موته « أنا أعلم أن الحنيفية حق ، ولكن الشك يداخلني في محمد » .
فمعنى { آتيناه آياتنا } أن الله ألهم أمية كراهية الشرك ، وألقى في نفسه طلب الحق ، ويسّر له قراءة كتب الأنبياء ، وحّبب إليه الحنيفية ، فلما انفتح له باب الهدى وأشرق نور الدعوة المحمدية كابَر وحسَد وأعرض عن الإسلام ، فلا جرم أن كانت حاله أنه انسلخ عن جميع ما يُسر له ، ولم ينتفع به عند إبان الانتفاع ، فكان الشيطان هو الذي صرفه عن الهدى فكان من الغاوين ، إذ مات على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقال سعيد بن المسيب نزلت في أبي عامر بن صيفي الراهب ، واسمه النعمان الخزرجي ، وكان يلقب بالراهب في الجاهلية لأنه قد تنصّر في الجاهلية ، ولبس المسوح وزعم أنه على الحنيفية ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « يا محمد ما الذي جئت به قال جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال فإني عليها فقال النبي لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها » فكفر وخرج إلى مكة يحرّض المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج معهم ، إلى أن قاتل في حُنين بعد فتح مكة ، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج إلى الشام فمات هنالك .
وذهب كثير من المفسرين إلى أنها نزلت في رجل من الكنعانيين ، وكان في زمن موسى عليه السلام يقال له : بلعام بن باعُور ، وذكروا قصته فخلطوها وغيروها واختلفُوا فيها ، والتحقيق أن بلعام هذا كان من صالحي أهل مَدْيَن وعرّافيهم في زمن مرور بني إسرائيل على أرض ( مُؤاب ) ولكنه لم يتغير عن حال الصلاح ، وذلك مذكور في سفر العدد من التوراة في الاصحاحات 22- 23- 24 فلا ينبغي الإلتفات إلى هذا القول لاضطرابه واختلاطه .
والإيتاء هنا مستعار للإطْلاَع وتيسير العلم مثل قوله { وآتاه الله الملك والحكمة } [ البقرة : 251 ] .
و« الآيات » دلائل الوحدانية التي كرّهت إليه الشرك وبعثته على تطلب الحنيفية بالنسبة لأمية بن أبي الصلت ، أو دلائل الإنجيل على صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة للراهب أبي عامر بن صيفي .
والانسلاخ حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يُسلخ عنه جلده ، والسلخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده ، واستعير في الآية للانفصال المعنوي ، وهو ترك التلبس بالشيء أو عدم العمل به ، ومعنى الانسلاخ عن الآيات الإقلاع عن العمل بما تقتضيه ، وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية .
وأتْبعهُ بهمزة قطع وسكون المثناة الفوقيه بمعنى لحقة غير مُفلت كقوله : { فأتبعه شهابٌ ثاقب } [ الصافات : 10 ] { فأتبعهم فرعون بجنوده } [ طه : 78 ] وهذا أخص من اتّبعه بتشديد المثناة ووصل الهمزة .
والمراد بالغاوين : المتصفين بالغي وهو الضلال { فكان من الغاوين } أشد مبالغة في الاتصاف بالغواية من أن يقال : وغوى أو كان غاوياً ، كما تقدم عند قوله تعالى : { قد ضَلَلْت إذاً وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ) .
ورتبت أفعال الانسلاخ والاتباع والكون من الغاوين بفاء العطف على حسب ترتيبها في الحصول ، فإنه لما عاند ولم يعمل بما هداه الله إليه حصلت في نفسه ظلمة شيطانية مكنت الشيطان من استخدامه وإدامة إضلاله ، فالانسلاخ على الآيات أثرٌ من وسوسة الشيطان ، وإذا أطاع المرء الوسوسة تمكن الشيطان من مقاده ، فسخره وأدام إضلاله ، وهو المعبر عنه ب{ أتبعه } فصار بذلك في زُمرة الغواة المتمكنين من الغواية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتل يا محمد على قومك نبأ الذي آتيناه آياتنا، يعني خبره وقصته...إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبر رجل كان الله آتاه حججه وأدلته، وهي الآيات. وقد دللنا على أن معنى الآيات الأدلة والأعلام فيما مضى بما أغنى عن إعادته، وجائز أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك بَلْعَم، وجائز أن يكون أمية [بن أبي الصلت]، وكذلك الآيات إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه، فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية، وعناه بها فجائز أن يكون الذي كان أوتيها بلعم، وجائز أن يكون أمية، لأن أمية كان فيما يقال قد قرأ من كتب أهل الكتاب، وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على من أمر نبيّ الله عليه الصلاة والسلام أن يتلو على قومه نبأه أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوّة، فغير جائز أن يكون معنيا به أمية لأن أمية لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئا من ذلك. ولا خبر بأيّ ذلك المراد وأيّ الرجلين المعنيّ يوجب الحجة ولا في العقل دلالة على أن ذلك المعنيّ به من أيّ. فالصواب أن يقال فيه ما قال الله، ويقرّ بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله.
"فانْسَلَخَ مِنْها" فإنه يعني: خرج من الآيات التي كان الله آتاها إياه، فتبرأ منها... عن ابن عباس، قال: كان الله آتاه آياته فتركها... ابن عباس: "فانْسَلَخَ مِنْها" قال: نزع منه العلم.
وقوله: "فَأتْبَعَهُ الشّيْطانُ" يقول: فصيره لنفسه تابعا ينتهي إلى أمره في معصية الله، ويخالف أمر ربه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن.
وقوله: "فَكانَ مِنَ الغاوينَ" يقول: فكان من الهالكين لضلاله وخلافه أمرَ ربه وطاعة الشيطان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها}... لا ندري في من نزلت؟ وهو في جميع مكذبّي الآيات، وليس يجب أن نخص997 واحدا، أو يشار إلى أحد نزل فيه. ولكن نقول: إنها نزلت في جميع مكذبي الآيات.
وقوله تعالى: {فانسلخ منها} خرج منها ونزع منها، وقيل: تركها، وكله واحد. ثم يحتمل {فانسلخ منها} أي كانوا قبلوها مرة، ثم ردّوها من بعد القبول. ويحتمل أن لم يقبلوها ابتداء، فخرجوا منها وكذّبوها.
وقوله تعالى: {فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} فيه دلالة أن الله لا يُتبع الشيطان أحدا ولا يزيغه إلا بعد ما كان منه الاختيار للضلال والميل إليه حين قال: {فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} إنما أتبع الشيطان بعد ما كان منه الانسلاخ والنّزع...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال قتادة: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله، فذلك قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا}...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشيطان صيره لنفسه تابعاً بإجابته له حين أغواه. والثاني: أن الشيطان متبع من الإنس على ضلالته من الكفر. والثالث: أن الشيطان لحقه فأغواه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الحقُّ -سبحانه- يظهر الأعداء في دار الخُلَّة ثم يردُّهم إلى سابق القسمة، ويُبْرِزُ الأولياء بنعتِ الخلاف والزَّلَّة، ثم يغلب عليهم مقسومات الوصلة. ويقال أقامه في محل القربة، ثم أبرز له من مكامن المكر ما أعدَّ له من سابق التقدير؛ فأصبح والكلُّ دونه رتبة، وأمسى والكلب فوقه -مع خساسته... ويقال ليست العِبْرَةُ بما يلوح في الحال، إنما العبرة بما يؤول إليه في المآل...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
تقدير الكلام: أنا أنعمنا على هذا العبد بالنعم العظام، والأيادي الجسام في باب الدين، بما مكناه في ذلك من تحصيل الرتبة الكبيرة، والمنزلة الرفيعة على بابنا ويصير رفيعا عندنا، عظيم القدر، كبير الجاه، ولكنه جهل قدر نعمتنا، فمال إلى الدنيا الخسيسة الحقيرة، وآثر شهوة نفسه الدنيئة الرديئة، ولم يعلم أن الدنيا كلها لا تزن عند الله أدنى نعمة من نعم الدين، ولا تساوي عنده جناح بعوضة، وكان في ذلك بمنزلة الكلب الذي لا يعرف الإكرام من الإهانة، والرفعة من الحقارة، وإنما الكرامة كلها عنده في كسرة يطعم، أو عراق مائدة يرمي إليه، سواء تقعده على سرير معك أو تقيمه في التراب والقذر بين يديك، فهمته وكرامته ونعمته كلها في ذلك. فهذا العبد السوء إذ جهل قدر نعمتنا، ولم يعرف حق ما آتيناه من كرامتنا وكلت بصيرته، وساء في مقام القربة أدبه بالالتفات إلى غيرنا، والاشتغال عن ذكر نعمتنا، بدنيا حقيرة ولذة خسيسة، فنظرنا إليه نظر السياسة، وأحضرناه ميدان العدل وأمرنا فيه بحكم الجبروت فسلبناه جميع خلعنا وكرماتنا، ونزعنا من قلبه معرفتنا، فانسلخ عاريا عن جميع ما آتيناه من فضلنا، فصار كلبا طريدا، أو شيطانا رجيما، نعوذ بالله، ثم نعوذ بالله من سخطه وأليم عقابه، إنه رؤوف رحيم...
... أما قوله: {فأتبعه الشيطان}... قال أهل المعاني: المقصود منه بيان أن من أوتي الهدى، فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى، ومال إلى الدنيا، حتى تلاعب به الشيطان كان منتهاه إلى البوار والردى، وخاب في الآخرة والأولى، فذكر الله قصته ليحذر الناس عن مثل حالته...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} أي {واتلُ} على من كان حاضراً من كفار اليهود وغيرهم ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته وذكر إقرارهم بذلك وإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به، ثم بعد ذلك كفر كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطلعوا عليه من كتب الله المنزلة وتبشيرها به، وذكر صفاته فلما بعث كفروا به...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فشبه سبحانه من أتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق: فالكلب الذي هو من أخس الحيوانات، وأوضعها قدرا، وأخسها نفسا، وهمته لا تتعدى بطنه. وأشدها شرها وحرصا. ومن حرصه: أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم، ويستروح حرصا وشرها، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم، والعذرة أحب إليه من الحلوى، وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره، لحرصه وبخله وشرهه.
ومن عجيب أمره وحرصه: أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية، وحال زرية نبحه، وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته. وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة: وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه: بالكلب في حال لهثه: سر بديع، وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه: إنما كان لشدة لهفه على الدنيا، لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له: إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده: أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا، وترك اللهف عليها، فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع، وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا: يلهث قائما، وقاعدا، وماشيا، وواقفا، وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث.
فهكذا مشبهه: شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث.
قال مجاهد: وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن تركته لم يهتد إلى خيرا كالكلب إن كان رابضا، لهث، وإن طرد لهث...
وقال أبو محمد بن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال الصحة، وحال المرض، والعطش.
فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، وقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، كالكلب إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث..
ونظيره قوله سبحانه: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} [الأعراف: 193].
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعاني:
فمنها: قوله: {آتيناه آياتنا} فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته، فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه ثم قال: {فانسلخ منها} أي خرج منها، كما تنسلخ الحية من جلدها، وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم.
ولم يقل: فسلخناه منها:؛ لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.
ومنها: قوله سبحانه {فأتبعه الشيطان} أي لحقه وأدركه، كما قال في قوم فرعون: {فأتبعوهم مشرقين} [الشعراء: 60] وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته {فكان من الغاوين} العاملين بخلاف علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.
ومنها: أنه سبحانه قال: {ولو شئنا لرفعناه بها} فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم، فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره، وقصد مرضاة الله، فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه، ولم ينفعه به، فنعوذ بالله من علم لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع، لا يرفع أحد به رأسا، فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه.
والمعنى: لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولو شئنا لرفعناه بعمله.
بها وقالت طائفة: الضمير في قوله «لرفعناه» عائد على الكفر. والمعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا. قال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.
وهذا المعنى حق، والأول هو مراد الآية. وهذا من لوازم المراد.
وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية، فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها.
وقوله: {ولكنه أخلد إلى الأرض} قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض.
وقال مجاهد: سكن، وقال مقاتل رضي بالدنيا، وقال أبو عبيدة: لزمها وأبطأ.
والمخلد من الرجال: هو الذي يبطئ مشيته، ومن الدواب: التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته.
وقال الزجاج: خلد وأخلد، وأصله من الخلود. وهو الدوام والبقاء، ويقال: «أخلد فلان بالمكان»إذا أقام به...قلت: ومنه قوله تعالى: {يطوف عليهم ولدان مخلدون} [الواقعة: 17] أي قد خلقوا للبقاء، لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سن واحد أبدا...
وقوله: {واتبع هواه} قال الكلبي: اتبع مسافل الأمور، وترك معاليها.
وقال أبو روق: اختار الدنيا على الآخرة، وقال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه...
فإن قيل: الاستدراك «بلكن» يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها، أو ينفي ما أثبت، كما تقول: لو شئت لأعطيته، لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته، فالاستدراك يقتضي: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ، أو لم نرفع، فكيف استدرك بقوله: {ولكنه أخلد إلى الأرض} بعد قوله: {ولو شئنا لرفعناه بها}؟
قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله: {ولو شئنا لرفعناه بها} أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: من إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنه آثر الدنيا، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا مثل ضربه الله تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أيدها به من الآيات العقلية والكونية، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها، قادرا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا لعلمه تمام المخالفة، فسلبها لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض...أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له كالثوب الخلق يلقيه صاحبه والثعبان يتجرد من جلده حتى لا يبقى له به صلة... فحاصل معنى المثل أن المكذبين بآيات الله تعالى المنزلة على رسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه على إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم الذي حرم ثمرة الانتفاع من علمه لأن كلا منهما لم ينظر في الآيات نظر تأمل واعتبار وإخلاص.
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} التلاوة القراءة وإلقاء الكلام الذي يعاد ويكرر للاعتبار به، والضمير في عليهم للناس المخاطبين بالدعوة وأولهم كفار مكة...
وقيل لليهود لأن المثل تابع لقصة موسى في السورة... {فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} أي فترتب على انسلاخه منها باختياره أن لحقه الشيطان فأدركه وتمكن من الوسوسة له إذ لم يبق لديه من نور العلم والبصيرة ما يحول دون قبول وسوسته، وأعقب ذلك أن صار من الغاوين أي الفاسدين المفسدين... {ولو شئنا لرفعناه بها} أي ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان، التي تقرن فيها العلوم بالأعمال، {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] – لفعلنا بأن تخلق له الهداية خلقا، ونحمله عليها طوعا أو كرها، فإن ذلك لا يعجزنا، وإنما هو مخالف لسنتنا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكمثل للانحراف عن سواء الفطرة، ونقض لعهد الله المأخوذ عليها، ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها.. ذلك الذي آتاه الله آياته، فكانت في متناول نظره وفكره؛ ولكنه انسلخ منها، وتعرى عنها ولصق بالأرض، واتبع الهوى؛ فلم يستمسك بالميثاق الأول، ولا بالآيات الهادية؛ فاستولى عليه الشيطان؛ وأمسى مطروداً من حمى الله، لا يهدأ ولا يطمئن ولا يسكن إلى قرار...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أعقب ما يُفيد أن التوحيد جعل في الفطرة بذكر حالة اهتداء بعض الناس إلى نبذ الشرك في مبدأ أمره ثم تعرّض وساوس الشيطان له بتحسين الشرك. ومناسبتُها للتي قبلها إشارة العبرة من حال أحد الذين أخذ الله عليهم العهد بالتوحيد والامتثال لأمر الله، وأمده الله بعلم يعينه على الوفاء بما عاهد الله عليه في الفطرة، ثم لم ينفعه ذلك كله حين لم يقدر الله له الهدى المستمر. وشأن القصص المفتتحة بقوله: {واتل عليهم} أن يقصد منها وعظ المشركين بصاحب القصة بقرينة قوله: {ذلك مثل القوم}... ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قوماً تغلب عليهم الأمية فأراد الله أن يبلّغ إليهم من التعليم ما يُساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة،...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... إن هذا مثل من تحيط به آيات الله التي تدعم فطرته التي فطر الناس عليها، فلا يلتفت إلى دلالتها، ويتركها منسلخا عما تدعو إليه كما ينسلخ اللابس من ثوبه الذي يستره، ويجمله، وينحط إلى مهاوي الشيطان. هذا، وإن كتب التفسير في هذه الآية مملوءة بأساطير يهودية لم تثبت بسند صحيح يصلح تفسيرا للقرآن، ولذلك ضربنا عن ذكرها صفحا؛ ذلك أنهم زعموا أن قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه} يتعرض لقصة شخص معين، فاستعانوا بالإسرائيليات، ليعلموا من هو. والحقيقة أنه ليس بشخص معين، إنما هو تصوير لمن تأتيه الآيات السابقات بالنور فيتركها. وزعموا أن قوله تعالى: {فاقصص القصص} ففهموا من هذا أنها قصة لها أشخاص ورجال وحوادث، فاستعاروها من بني إسرائيل، وهذا لا يساعده النص، إنما النص في قصص المثل ذاته؛ ولذلك قال تعالى: {ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}...
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا}... والمهم ليس اسمه، المهم أن إنسانا آتاه الله آياته ثم انسلخ من الآيات، فبدلا من أن ينتفع بها صيانة لنفسه، وتقربا إلى ربه {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} واتبع هواه ومال إلى الشيطان...
و كلمة "انسلخ "دليل على أن الآيات محيطة بالإنسان إحاطة قوية لدرجة أنها تحتاج جبروت معصية لينسلخ الإنسان منها؛ ...
فكأن ربنا يوضح أنه سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الآيات فانسلخ منها، وهذا يعني أن الآيات تحيط بالإنسان كما يحيط الجلد بالجسم ليحفظ الكيان العام للإنسان؛ ... والله عز وجل يقول هنا: {آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا}. وكان يجب ألا يغفل عنها، لأن الإتيان نعمة جاءت ليحافظ الإنسان عليها، لكن الإنسان انسلخ من الآيات...
وإذا انسلخ من آتاه خبر الإيمان عن المنهج يقول الشيطان: إنه يصلح أن يتبعني، وكأن الشيطان حين يجد واحدا فيه أمل، فهو يجري وراءه مخافة أن يرجع إلى ما آتاه الله من الكتاب الحامل للمنهج،...
يقول الحق: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}... الغاوي والغَوي هو من يضل عن الطريق وهو الممعن في الضلال، ونعلم أن الهدى هو الطريق الموصل للغاية، ومن يشذ عن الطريق الموصل للغاية يضل أو يتوه في الصحراء. وهو الذي يُسمى "الغاوي"، ومادام من الغاوين عن منهج الله فالفساد ينشأ منه لأنه فسد في نفسه ويفْسد غيره...