قوله تعالى : { وكأين من دابة لا تحمل رزقها } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون : هاجروا إلى المدينة فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال ، فمن يطعمنا بها ويسقينا ؟ فأنزل الله : { وكأين من دابة } ذات حاجة إلى غذاء ، { لا تحمل رزقها } أي : لا ترفع رزقها معها ولا تدخر شيئاً لغد مثل البهائم والطير ، { الله يرزقها وإياكم } حيث كنتم ، { وهو السميع العليم } السميع لأقوالكم : لا نجد ما ننفق بالمدينة ، العليم بما في قلوبكم . وقال سفيان عن علي بن الأقمر : وكأين من دابة لا تحمل رزقها ، قال : لا تدخر شيئاً لغد . قال سفيان : ليس شيء من خلق الله يخبئ إلا الإنسان والفأرة والنملة .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي ، أنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق ، أنبأنا محمد بن عبد العزيز ، أنا إسماعيل بن زرارة الرقي ، أنبأنا أبو العطوف الجراح بن منهال ، عن الزهري ، عن عطاء بن أبي رياح ، عن ابن عمر قال : " دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً من حوائط الأنصار ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقط الرطب بيده ويأكل ، فقال : كل يا ابن عمر ، قلت : لا أشتهيه يا رسول الله ، قال : لكني أشتهيه ، وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاماً ولم أجده ، فقلت إنا لله ، الله المستعان ، قال : يا بن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافاً مضاعفة ، ولكن أجوع يوماً وأشبع يوماً فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين ، فنزلت : { وكأين من دابة لا تحمل رزقها } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي ، أنبأنا أبو العباس السراج ، أنبأنا قتيبة بن سعيد ، أنبأنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كان لا يدخر شيئاً لغد " . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " .
أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري ، أنبأنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقيه ، أنبأنا أبو نصر بن حمدونة المطوعي ، أنبأنا أبو الموجه محمد بن عروة ، أنبأنا عبدان ، عن أبي حمزة ، عن إسماعيل هو ابن أبي خالد ، عن رجلين أحدهما زبيد اليامي ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيها الناس ليس من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وليس شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته " وقال هشيم عن إسماعيل عن زبيد عمن أخبره عن ابن مسعود .
{ 60 } { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
أي : الباري تبارك وتعالى ، قد تكفل بأرزاق الخلائق كلهم ، قويهم وعاجزهم ، فكم { مِنْ دَابَّةٍ } في الأرض ، ضعيفة القوى ، ضعيفة العقل . { لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } ولا تدخره ، بل لم تزل ، لا شيء معها من الرزق ، ولا يزال اللّه يسخر لها الرزق ، في كل وقت بوقته .
{ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } فكلكم عيال اللّه ، القائم برزقكم ، كما قام بخلقكم وتدبيركم ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فلا يخفى عليه خافية ، ولا تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه .
كما قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }
ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة ، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا ، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب ، فإنهم{[22677]} بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار ؛ ولهذا قال : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي : لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تؤخر{[22678]} شيئًا لغد ، { اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي : الله يقيض لها رزقها على ضعفها ، وييسره عليها ، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه ، حتى الذر في قرار الأرض ، والطير في الهواء والحيتان في الماء ، قال الله تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي ، حدثنا يزيد - يعني ابن هارون - حدثنا الجراح بن مِنْهَال الجزري - هو أبو العطوف - عن الزهري ، عن رجل{[22679]} ، عن ابن عمر قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة ، فجعل يلتقط من التمر ويأكل ، فقال لي : " يا بن عمر ، ما لك لا تأكل ؟ " قال : قلت : لا أشتهيه يا رسول الله ، قال : " لكني أشتهيه ، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده ، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا بن عمر إذا بَقِيتَ في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين ؟ " .
قال : فوالله ما برحنا ولا رِمْنا حتى نزلت : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا ، ولا باتباع الشهوات ، فَمَنْ كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله ، ألا وإني لا أكنز دينارًا ولا درهمًا ، ولا أخبئ رزقا لغد{[22680]}-{[22681]} " .
وهذا حديث غريب ، وأبو العطوف الجزري ضعيف .
وقد ذكروا أن الغراب إذا فَقسَ عن فراخه البَيض ، خرجوا وهم بيضٌ فإذا رآهم أبواهم كذلك ، نفرا عنهم أياما حتى يسود الريش ، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه ، فيقيض الله له طيرًا{[22682]} صغارًا كالبَرغَش فيغشاه فيتقوت منه تلك الأيام حتى يسود ريشه ، والأبوان يتفقدانه كل وقت ، فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه ، فإذا رأوه قد اسودّ ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق ، ولهذا قال الشاعر :
يا رازق النعَّاب{[22677]} في عُشه *** وجَابر العَظْم الكَسِير المهيض
وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم " سافروا تصحوا وترزقوا " .
قال البيهقي أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد ، أخبرنا محمد بن غالب ، حدثني محمد بن سِنان ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن رَدّاد - شيخ من أهل المدينة - حدثنا عبد الله بن دينار{[22684]} عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سافروا تصحوا وتغنموا " . قال : ورويناه عن ابن عباس{[22685]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن دَرّاج ، عن عبد الرحمن بن حُجَيرة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سافروا تربحوا ، وصوموا تصحوا ، واغزوا تغنموا " {[22686]} .
وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعا ، وعن معاذ بن جبل موقوفا{[22687]} . وفي لفظ : " سافروا مع ذوي الجدود والميسرة " {[22688]} وقوله تعالى : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم وسكناتهم .
{ وكأين من دابة لا تحمل رزقها } لا تطيق حمله لضعفها أو لا تدخره ، وإنما تصبح ولا معيشة عندها . { الله يرزقها وإياكم } ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في انه لا يرزقها وإياكم إلا الله ، لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة ، فإنهم لما أمروا بالهجرة قال بعضهم كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة فنزلت . { وهو السميع } لقولكم هذا . { العليم } بضميركم .
{ كأين } بمعنى كم ، وهذه الآية أيضاً تحريض على الهجرة لأن بعض المؤمنين فكر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة وقالوا غربة في بلد لا دار لنا فيه ولا عقار ولا من يطعم فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدخر ولا تروي في رزقها ، المعنى فهو يرزقكم أنتم ، ففضلوا طاعته على كل شيء ، وقوله تعالى : { لا تحمل } يجوز أن يريد من الحمل أي لا تستقل ولا تنظر في ادخار ، وقاله ابن مجلز ومجاهد وعلي بن الأقمر .
قال الفقيه الإمام القاضي : والادخار ليس من خلق الموقنين ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر : «كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة بضعف اليقين »{[9273]} ، ويجوز أن يريد من الحمالة أي لا تتكفل لنفسها ولا تروي فيه{[9274]} .
عطف على جملة { كل نفس ذائقة الموت } [ العنكبوت : 57 ] فإن الله لما هوَّن بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أ ، هم يقولون في أنفسهم : إنّا لا نخاف الموت ولكنا نخاف الفقر والضيعة . واستخفاف العرب بالموت سجية فيهم كما أن خشية المعرّة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] فأعقب ذلك بأن ذكَّرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم . وضرب لهم المثل برزق الدواب ، وللمناسبة في قوله تعالى : { إن أرضي واسعة } [ العنكبوت : 56 ] من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقاً في البلاد التي يهاجرون إليها ، وهو أيضاً مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله : { وعلى رَبِّهِم يَتَوكلون } [ العنكبوت : 59 ] ، وفي الحديث : « لو توكلتم على الله حق توكُّله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خِماصاً وتروح بِطَاناً » ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون ، ضمِن الله لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله . وتوكلهم هو حق التوكل ، أي أكمله وأحزمه فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم .
وتقدم الكلام على { كأيّن } عند قوله تعالى : { وكأيّن من نبيء قُتِل معه ربيون كثير } في سورة آل عمران [ 146 ] .
وقوله : { وكأيّن من دابة لا تَحْمل رِزْقها } خبر غير مقصود منه إفادة الحكم ، بل هو مستعمل مجازاً مركباً في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين . وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدوابّ الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها ، وهي السوائم الوحشية ، والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله : { الله يرزقها وإياكم } الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله : { وكأين من دَابةٍ لا تَحْمِل رِزْقها } ولذلك عطف { وإياكم } على ضمير { دابة } والمقصود : التمثيل في التيسير والإلهام للاسباب الموصلة وإن كانت وسائل الرق مختلفة .
والجمل في قوله : { لا تحمل رزقها } يجوز أن يكون مستعملاً في حقيته ، أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها ، وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض . ويجوز أن يستعمل مجازاً في التكلف له ، مثل قول جرير :
حُمِّلت أمراً عظيماً فاصطبرت له
أي لا تتكلف لرزقها . وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفأرة ، قيل وبعض الطيركالعقعق . وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : { الله يرزقها } دون أن يقول : يرزقها الله ، ليفيد بالتقديم معنى الاختصاص ، أي الله يرزقها لا يغره ، فلماذا تعبدون أصناماً ليس بيدها رزق . وجملة { وهو السميع العليم } عطف على جملة : { الله يرزقها وإياكم } . فالمعنى : الله يرزقكم وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من الإخلاص لله في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم منه الرزق .