قوله تعالى : { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله } يعني إخراج ما فرض الله عليكم ، { فمنكم من يبخل } بما فرض عليه من الزكاة ، { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني } عن صدقاتكم وطاعتكم ، { وأنتم الفقراء } إليه وإلى ما عنده من الخير . { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم . قال الكلبي : هم كندة والنخع ، وقال الحسن : هم العجم . وقال عكرمة : فارس والروم .
أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر الكوفاتي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر ، حدثنا بن إسحاق النجبي المصري المعروف بابن النحاس ، أنبأنا أبو الطيب الحسن بن محمد الرياش ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا مسلم بن خالد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ فضرب سلمان الفارسي ثم قال : هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " .
والدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها ، أنكم تمتنعون منها ، أنكم { تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } على هذا الوجه ، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية .
{ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ } أي : فكيف لو سألكم ، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة ؟ أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك .
ثم قال : { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى ، وفاته خير كثير ، ولن يضر الله بترك الإنفاق شيئا .
فإن الله هو { الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم ، لجميع أموركم .
{ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا } عن الإيمان بالله ، وامتثال ما يأمركم به { يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } في التولي ، بل يطيعون الله ورسوله ، ويحبون الله ورسوله ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }
وقوله : { هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ } أي : لا يجيب إلى ذلك { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } أي : إنما نقص نفسه من الأجر ، وإنما يعود وبال ذلك عليه ، { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ } أي : عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه دائما ؛ ولهذا قال : { وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } أي : بالذات إليه . فوصفه بالغنى وصف لازم له ، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم ، [ أي ] {[26726]} لا ينفكون عنه .
وقوله : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا } أي : عن طاعته واتباع شرعه{[26727]} { يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } أي : ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره .
وقال{[26728]} ابن أبي حاتم ، وابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] {[26729]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } ، قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال : فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال : " هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " {[26730]} تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ، ورواه عنه غير واحد ، وقد تكلم فيه بعض الأئمة ، والله أعلم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين:"ها أنْتُمْ" أيها الناس "هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ "يقول: تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونُصرة دينه "فمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ" بالنفقة فيه، وأدخلت «ها» في موضعين، لأن العرب إذا أرادت التقريب جعلت المكنيّ بين «ها» وبين «ذا»، فقالت: ها أنت ذا قائما، لأن التقريب جواب الكلام، فربما أعادت «ها» مع «ذا»، وربما اجتزأت بالأولى، وقد حُذفت الثانية، ولا يقدّمون أنتم قبل «ها»، لأن ها جواب فلا تقرب بها بعد الكلمة.
وقال بعض نحويي البصرة: جعل التنبيه في موضعين للتوكيد.
وقوله: "وَمَنْ يَبْخَلْ فإنّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ" يقول تعالى ذكره: ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله، فإنما يبخل عن بخل نفسه، لأن نفسه لو كانت جوادا لم تبخل بالنفقة في سبيل الله، ولكن كانت تجود بها.
"وَاللّهُ الغَنِيّ وأنْتُمُ الفُقَرَاءُ" يقول تعالى ذكره: ولا حاجة لله أيها الناس إلى أموالكم ولا نفقاتكم، لأنه الغنيّ عن خلقه والخلق الفقراء إليه، وأنتم من خلقه، فأنتم الفقراء إليه، وإنما حضكم على النفقة في سبيله، ليُكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه... وقوله تعالى ذكره: "وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ" يقول تعالى ذكره: وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، فترتدّوا راجعين عنه، "يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ" يقول: يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلاً منكم يصدّقون به، ويعملون بشرائعه.
"ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ" يقول: ثم لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يُؤمرون به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هؤلاء} موصول بمعنى الذين صلته {تُدْعَوْنَ} أي أنتم الذين تدعون. أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفهم، كأنهم قالوا: وما وصفنا؟ فقيل: تدعون {لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} قيل: هي النفقة في الغزو. وقيل: الزكاة، كأنه قيل: الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء واضطغنتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، فمنكم ناس يبخلون به، ثم قال: {وَمَن يَبْخَلْ} بالصدقة وأداء الفريضة. فلا يتعداه ضرر بخله، وإنما {يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} يقال بخلت عليه وعنه، وكذلك ضننت عليه وعنه. ثم أخبر أنه لا يأمر بذلك ولا يدعو إليه لحاجته إليه، فهو الغني الذي تستحيل عليه الحاجات، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} معطوف على: وإن تؤمنوا وتتقوا {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما...
(أحدهما) أن تكون موصولة كأنه قال: أنتم هؤلاء الذين تدعون لتنفقوا في سبيل الله.
(وثانيهما) {هؤلاء} وحدها خبر {أنتم} كما يقال أنت هذا تحقيقا للشهرة والظهور أي ظهر أثركم بحيث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمر مغاير ثم يبتدئ {تدعون}.
وقوله {تدعون} أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله تعالى بالجهاد، وإما في صرفه إلى المستحقين من إخوانكم، وبالجملة ففي الجهتين تخذيل الأعداء ونصرة الأولياء. {فمنكم من يبخل}، ثم بين أن ذلك البخل ضرر عائد إليه فلا تظنوا أنهم لا ينفقونه على غيرهم بل لا ينفقونه على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة الطبيب وثمن الدواء وهو مريض فلا يبخل إلا على نفسه، ثم حقق ذلك بقوله {والله الغني} غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله {وأنتم الفقراء} حتى لا تقولوا إنا أيضا أغنياء عن القتال، ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه لولا القتال لقتلوا، فإن الكافر إن [لم] يُغز يَغز، والمحتاج إن لم يدفع حاجته يقصده، لاسيما أباح الشارع للمضطر ذلك، وأما في الآخرة فظاهر فكيف لا يكون فقيرا وهو موقوف مسؤول {يوم لا ينفع مال ولا بنون}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ها أنتم} وحقر أمرهم أو أحضره في الذهن وصوره بقوله: {هؤلاء تدعون} أي- إلى ربكم الذي لا يريد بدعائكم إلا نفعكم وأما هو فلا يلحقه نفع ولا ضر {لتنفقوا} شيئاً يسيراً من الزكاة ...
... {في سبيل الله} أي الملك الأعظم الذي يرجى خيره ويخشى ضيره، بخلاف من يكون وما يكون به اللهو اللعب...
. {فمنكم} أي أيها المدعون {من يبخل} وهو منكم لا شك فيه، وحذف القسم الآخر- وهو "ومنكم من يجود "لأن المراد الاستدلال على ما قبله من البخل. ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه ليقع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله: {ومن} أي والحال أنه من {يبخل} بذلك {فإنما يبخل} أي بماله بخلاً صادراً {عن نفسه} التي هي منبع الدنايا، فلا تنفس ولا تنافس إلا في الشيء الخسيس، فإن نفع ذلك الذي طلب منه فبخل به إنما هو له، وأكده لأنه لا يكاد أحد يصدق أن عاقلاً يتجاوز بماله عن نفع نفسه...
{والله} أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {الغني} أي وحده {وأنتم} أيها المكلفون خاصة {الفقراء} لأن العطاء ينفعكم والمنع يضركم. فمن افتقر منكم إلى فقير مثله وقع في الذل والهوان، وقد جرت عادتكم أن يداخلكم من السرور ما لا يجد إذا طلب من أحد منكم أحد من- الأجود الأغنياء شيئاً طمعاً في جزائه، فكونوا كذلك وأعظم إذا طلب منكم الغنى المطلق...
{وإن تتولوا} أي توقعوا التولي عنه تكلفوا أنفسكم ضد ما تدعو إليه الفطرة الأولى من السماح بذلك الجزاء اليسير جداً الموجب للثواب الخطير والفوز الدائم، ومن الجهاد في سبيله، والقيام بطاعته، لكونه المحسن الذي لا محسن في الحقيقة غيره {يستبدل} أي يوجد {قوماً} فيهم قوة وكفاية لما يطلب منهم محاولته...
{غيركم} أي بدلاً منكم وهو على غير صفة التولي. ولما كان الناس متقاربين في الجبلات، وكان المال محبوباً، كان من المستبعد جداً أن يكون هذا البذل على غير ما هم عليه، قال تعالى مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي تأكيداً لما أفهمه ما قلته من التعبير ب "غير" وتثبيتاً له-: {ثم} أي بعد استبعاد من يستبعد و- علو الهمة في مجاوزة جميع عقبات النفس والشيطان: {لا يكونوا أمثالكم *} في التولي عنه بترك شيء مما أمر به أو فعل شيء مما نهى عنه، ومن قدر على الإيجاد قدر على الإعدام. بل هو أهون في مجاري العادات...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
والدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها، أنكم تمتنعون منها، أنكم {تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على هذا الوجه، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية. {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} أي: فكيف لو سألكم، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟ أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك. ثم قال: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى، وفاته خير كثير، ولن يضر الله بترك الإنفاق شيئا. فإن الله هو {الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم، لجميع أموركم. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} عن الإيمان بالله، وامتثال ما يأمركم به {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} في التولي، بل يطيعون الله ورسوله، ويحبون الله ورسوله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآية ترسم صورة وصفية لواقع الجماعة المسلمة يومذاك. ولواقع الناس تجاه الدعوة إلى البذل في كل بيئة. فهي تقرر أن منهم من يبخل. ومعنى هذا أن هنالك من لا يبخلون بشيء. وقد كان هذا واقعا، سجلته الروايات الكثيرة الصادقة، وسجله القرآن في مواضع أخرى. وقد حقق الإسلام في هذا المجال مثلا تحسب من خوارق الأمثال في البذل والتضحية عن رضى وعن فرح بالبذل والعطاء. ولكن هذا لم يمنع أن يكون هنالك من يبخل بالمال. ولعل الجود بالنفس أرخص عند بعضهم من الجود بالمال!... فما يبذله الناس إن هو إلا رصيد لهم مذخور، يجدونه يوم يحتاجون إلى رصيد...
(والله الغني وأنتم الفقراء).. فهو الذي أعطاكم أموالكم...
. (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم).. وإنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان، وأحس بكرامته على الله، وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم. ويمشي في الإرض بسلطان الله في قلبه؛ ونور الله في كيانه؛ ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه.. وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه، ويطرد من الكنف، وتوصد دونه الأبواب. لا بل إن الحياة لتغدو جحيما لا يطاق عند من يتصل بربه ثم يطبق دونه الحجاب. إن الإيمان هبة ضخمة، لا يعدلها في هذا الوجود شيء؛ والحياة رخيصة رخيصة، والمال زهيد زهيد، حين يوضع الإيمان في كفة، ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه.. ومن ثم كان هذا الإنذار أهول ما يواجهه المؤمن وهو يتلقاه من الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فيجوز أن يكون المعنى: تُدْعَون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال: {والله الغني وأنتم الفقراء}. ونظم الكلام يقتضي أن هذه دعوة للإنفاق في الحال وليس إعلاماً لهم بأنهم سيدعون للإنفاق فهو طلبٌ حاصل. ويحمل {تدْعَون} على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب. ويجوز أن يحمل {تدعون} على دعوة الترغيب... {والله الغني وأنتم الفقراء}...
فالله الغني المطلق، والغني المطلق لا يسأل الناس مالاً في شيء، والمخاطبون فقراء فلا يطمع منهم البذل فتعين أن دعاءهم لينفقوا في سبيل الله دعاء بصرف أموالهم في منافعهم كما أشار إلى ذلك قوله: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه}. والتعريف باللام في {الغني} وفي {الفقراء} تعريف الجنس، وهو فيهما مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه...
{وإن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم}...
والتولي: الرجوع، واستعير هنا لاستبدال الإيمان بالكفر، ولذلك جعل جزاؤه استبدال قوم غيرهم كما استبدلوا دينَ الله بدين الشرك. والاستبدال: التبديل...
قوله {غيركم}، فعلم أن المستبدل به هو ما أضيف إليه (غير) لِتعيّن انحصار الاستبدال في شيئين، فإذا ذكر أحدهما علم الآخر. والتقدير: يستبدل قوماً بكم...
.والمعنى: يتخذ قوماً غيركم للإيمان والتقوى، وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قوماً آخرين إلاّ عند ارتداد المخاطبين، بل المراد: أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون...
و {ثم} للترتيب الرتبي لإفادة الاهتمام بصفة الثبات على الإيمان وعلوّها على مجرد الإيمان، أي ولا يكونوا أمثالكم في التولِّي...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم). أجل، إنّ هذا الحمل لن يسقط على الأرض أبداً، وهذه الرسالة العظيمة لا يمكن أن يتوقّف مسيرها، فإن أنتم لم تستمروا في موقفكم في الذب عن دين الله، واستصغرتم شأن هذه الرسالة العظيمة، فإنّ الله سبحانه سوف يأتي بقوم يتحمّلون أعباء هذه الرسالة.. أُولئك قوم يفوقونكم مرّات في الإيثار والتضحية وبذل الأنفس والأموال والإنفاق في سبيل الله!...وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (54) من سورة المائدة، حيث تقول: (يا أيّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)...