تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ يَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم} (38)

الآية 38 وقوله تعالى : { هاأنتم هؤلاء تُدعَون لتُنفقوا في سبيل الله } أي في إظهار دين الله أو في طاعة الله أو في الجهاد لأن الإنفاق في ذلك كلّه في سبيل الله ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } جعل الله عز وجل /516-أ/ الإنفاق لهم حقيقة إذا أنفقوا في ما أمرهم الله تعالى بالإنفاق في طاعته ، عند ذلك تصير تلك الأموال لهم لأنهم إذا أنفقوا في ما أمر الله تعالى انتفعوا بها في الدنيا ، واستمتعت أنفسهم ، وتلذّذت ، وانتفعوا بها في الآخرة وقت حاجتهم وفقرهم ، بذلك تُتحقّق لهم ، وتُحصّل تلك الأموال .

فأما عند تركهم الإنفاق في ما أمر بالإنفاق والبذل فلا تُتحقّق لهم تلك الأموال المجعولة في أيديهم لأنه إما أن تُجعل لوارثهم ، أو يأخذها منهم بلا سبب من غير أن يجعل لهم بذلك نفع يحصل لهم ، فيكون ما ذكرنا .

فذلك تأويل قوله تعالى : { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } ، والله أعلم ، لما يُهلِك نفسه بترك الإنفاق منها ، فلم يتمتّع ، ولم ينتفع به وقت حاجته إليه في الآخرة .

وقال بعضهم : قوله تعالى : { فمنكم من يبخل } عن الصدقة والإنفاق في طاعة الله { ومن يبخل } بالصدقة في طاعة الله { فإنما يبخل عن نفسه } بالجزاء ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { والله الغنيّ وأنتم الفقراء } أي والله الغني عن إنفاقكم وعما يأمركم بالإنفاق ، وأنتم الفقراء إلى ما تُنفقون ، أي أنتم المنتفعون بذلك الإنفاق الذي يأمركم به [ لا أنه ]{[19490]} يُرجِع منفعة ذلك غليهن أو يأمر لحاجة نفسه ، ولكن إنما يأمركم بذلك لحاجتكم إليه يوما ، والله أعلم .

ويحتمل أن يكون يقول : { والله الغنيّ } عنكم وعما في أيديكم { وأنتم الفقراء } إليه في كل وقت وكل ساعة في جميع أحوالكم وأوقاتكم كقوله تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد } [ فاطر : 15 ] .

ويحتمل أن يكون يقول : { والله الغنيّ } عن أموالكم { وأنتم الفقراء } إلى مغفرته ورزقه وجنّته ورحمته .

وقوله تعالى : { وإن تتولَّّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } قال بعضهم : قد تولَّوا ، وهم أهل مكة ، واستبدل قوما غيرهم{[19491]} ، وهم أهل المدينة . لكنّ هذا بعيد لأن السورة مدنية فلا يحتمل الخطاب به لأهل مكة بقوله : { وإن تتولّوا } ومنكم من يقول : الله عز وجل أخبر ، ووعد أهل المدينة أنهم إن يتولّوا يستبدل{[19492]} غيرهم أطوع منهم لله تعالى ، فلا تولّى{[19493]} هؤلاء ، ولا استبدل غيرهم . وقال بعضهم : هو على وجهين :

أحدهما : قوله : { وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم } [ أي لم تتولّوا ، ولم يستبدل قوما غيركم ]{[19494]} .

والوجه الآخر : قد تولّوا ، واستبدل بهم النُّخَعَ وأحْمَسَ وناسا{[19495]} من كِنْدَة . والذين تولَّوا : حنظلة وأسد وغَطَفان وبنو فلان .

وقوله تعالى : { ثم لا يكونوا } أي لا يكونوا أمثالكم في الطاعة لله تعالى ، بل أطوع له وأخضع والله أعلم .

وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن قوله تعالى : { وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم } ( فضرب بيده على فخذ سَلْمان الفارسيّ ، وقال : والذي نفسي بيده لو كان الدين منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس ) [ الترمذي 3261 ] .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت غنمًا سوداء ، ردفها غنمٌ بيض ، فاختلطت بها ، فتعقّبت بهم جميعا . قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أوّلت ؟ قال : العَجَمُ يشركونكم في دينكم وأنسابكم . قالوا : العجم يا رسول الله ؟ قال : نعم ، لو كان الإيمان معلّقا بالثُّريّا لتناوله رجال من العجَم ، وأسعدهم به أهل فارس ) [ الحكم في المستدرك 4/395 ] .

فإن ثبت هذا الخبر فجائز أن يُستدلّ به على جعل العجَم أكفاء العرب لأنه قال : [ يُشركونكم في أنسابكم ] فإذا أشركوهم في أنسابهم صاروا أكفاء لهم .

ويحتمل أن يكون قوله : ( يشرُكونكم في أنسابكم ) لأنهم يتزاوجون{[19496]} ، فيلد منهم أولاد ، فيشرُكونهم في ما ذكر ، والله أعلم .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : ( تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وإن تتولَّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالَكم } قالوا : من هؤلاء ؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سَلْمان ، ثم قال : هذا وقومه ) [ ابن جرير الطبري في تفسيره : 26/67 ] .

وقال في حديث آخر : ( والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثُّريّا لتناوله رجال من فارس ) [ الحاكم في المستدرك 4/395 ] والله أعلم بالصواب .

[ وصلى الله تعالى على محمد وآله أجمعين ]{[19497]} .


[19490]:من م، في الأصل: لك.
[19491]:في الأصل وم: غيركم.
[19492]:في الأصل وم: استبدل.
[19493]:في الأصل وم: تولّوا.
[19494]:من م، ساقطة من الأصل.
[19495]:في الأصل وم: وناس.
[19496]:في الأصل: ينسبون، في م: ينسبونهم.
[19497]:من م، ساقطة من الأصل.