اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ يَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم} (38)

ثم بين ذلك بقوله : { هَا أَنتُمْ هؤلاء } قد طلبت منكم اليسير فيحكم فكيف لو طلبت منك الكل{[51561]} ؟

قوله : { هَا أَنتُمْ هؤلاء } ( قال الزمخشري{[51562]} : هؤلاء ) موصول{[51563]} صلته «تدعون » أي أنتم الذين تدعون أو أنتم يا مخاطَبُون هؤلاء المؤمنون . ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا : وما وَصْفُنَا ؟ فقيل : تُدْعَوْنَ{[51564]} . وقال ابن الخطيب : «هؤلاء » تحتمل وجهينِ :

أحدهما : أن تكون موصولة كأنه قال : أنتم الذين تُدْعَوْنَ لتنفقوا في سبيل الله .

وثانيهما : هؤلاء وحدها خبر «أنتم » كما يقال : أنت ( أنت{[51565]} و ) أنت هذا تحقيقاً لشهرة والظهور أي ظهور أثركم بحيث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمْر مغاير{[51566]} . وقد تقدم الكلام على قوله : { هَا أَنتُمْ هؤلاء } مُشْبَعاً في آلِ عِمْرَانَ{[51567]} .

وقوله : «تُدْعَوْنَ » أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله بالجهاد وإما صرفه إلى المستحقين من إخوانكم . قوله : { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } بما فرض عليه من الزكاة { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } أي إن ضرر ذلك البخل عائد إليه فلا تظنوا أنهم ينفقون على غيرهم بل لا ينفقونه إلا على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة ( الطّبيب ){[51568]} وثمن الدواء وهو مريضٌ فلا يبخل إلا على نفسه ثم حقق ذلك بقوله : { والله الغني } أي غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله : { وَأَنتُمُ الفقراء } إليه وإلى ما عنده من الخير حتى لا تقولوا بأنا أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء{[51569]} .

قوله : { يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } بَخِلَ وضنَّ يتعديان ب «عَلَى » تارةً وب «عَنْ » أخرى{[51570]} .

والأجود أن يكون{[51571]} حال تعديهما ب «عَنْ » مُضَمَّنَيْن معنى الإمساك .

قوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } هذه الجملة ( الجملة الشرطية{[51572]} عطف على ) الشرطية قبلها . و«ثُمَّ لاَ يَكُونُوا » عطف على «يَسْتَبْدِلْ »{[51573]} .

فصل

ذكر بيان الاستغفار كما قال تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ فاطر : 16 ] قال المفسرون : إن تَتَوَلَّوْا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم . قال الكلبي : هم كِنْدَةُ والنَّخْعُ .

وقال الحسن : هم العجم . وقال عكرمة : فارس ( والروم ){[51574]} لما روى أبو هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } قال يا رسول الله : من هؤلاء الذين إن تولينا اسْتُبْدِلُوا بنا ، ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ فضرب على فَخدِ سَلْمَانَ الفَارسيِّ ثم قال : هذا وقومه ولو كان الدين عند الثُّرَيَّا لتناوله ورجالٌ من الفرس . وقيل : هم قوم من الأنْصارِ »{[51575]} .

فصل

قال ابن الخطيب : ههنا مسألة ، وهي أن النُّحَاةَ قالوا : يجوز في المعطوف على جواب الشرط «بالواو والفاء وثُمَّ » الجزم والرفع ، تقول : إنْ تَأتِنِي آتِكَ فَأُخْبِرُكَ{[51576]} بالجزم والرفع جميعاً ، قال الله تعالى ههنا { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } وقال { ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } بالجزم{[51577]} وقال في موضع آخر :

{ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }{[51578]} [ آل عمران : 111 ] بالرفع ، لإثبات النون . وفيه تدقيق : وهو أن قوله : «لاَ يَكُونُوا » متعلق بالتولي{[51579]} ؛ لأنهم إن لم يَتَوَلَّوْا يَكُونوا{[51580]} مثلَ من{[51581]} يأتي بهم الله على الطاعة وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي بهم مطيعين . وأما هناك سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون ، فلم يكن التعلق{[51582]} هناك بما وقع بالابتداء وهنا جزم . وقوله : { يكونوا أَمْثَالَكُم } في الوصف لا في الجنس{[51583]} .

ختام السورة:

روى أُبَيُّ بن كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَرَأَ سُورَة مُحَمَّدٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيهُ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ »{[1]} ( صدق رسول اله صلى الله عليه وسلم وشرفَ وكرمَ ){[2]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[51561]:السابق.
[51562]:ما بين القوسين ساقط من ب بسبب انتقال النظر.
[51563]:مع أنه مشهور فيه الإشارة الجمعية تذكيرا وتأنيثا.
[51564]:الكشاف 3/539.
[51565]:ما بين الأقواس زيادة من النسختين عن كلام ابن الخطيب وهو الرازي كما عرف.
[51566]:وانظر تفسيره 28/75.
[51567]:عند قوله: "ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون" من الآية 66 منها. والهاء حرف تنبيه و "أنتم" مبتدأ "وهؤلاء" خبره و "أولاء" لغة الحجاز والقصر لغة تميم ويقال: ألاك بالتشديد وأولالك وأولئك وكلها واردات. (بتصرف من من الهمع للسيوطي 1/75).
[51568]:سقط من ب.
[51569]:وانظر الرازي 28/75 المرجع السابق.
[51570]:قاله الزمخشري في الكشاف ثم أبو حيان في البحر انظر الكشاف 3/540 والبحر 8/86.
[51571]:كذا في النسخ والأوضح: أن يكونا أي بخل وضن.
[51572]:ما بين القوسين الكبيرين ساقط من ب وما بين القوسين الصغيرين زيادة عن السياق لتوضيحه.
[51573]:البحر 8/86 السابق.
[51574]:سقط من ب وانظر هذه الآراء في الجامع للقرطبي 16/358 والكشاف للزمخشري 3/540 والبحر لأبي حيان 8/86.
[51575]:المراجع السابقة.
[51576]:هذا الجملة زيادة من المؤلف على تفسير ابن الخطيب. وفي أ الأصل: فأخبرتك والتصحيح من ب كما كتبته أعلى.
[51577]:بحذف النون.
[51578]:بالرفع بثبوت النون وهي من الآية 133 من آل عمران.
[51579]:في الرازي: وهو أن ههنا لا يكون متعلقا بالتولي.
[51580]:وفيه: يكونون وهو تحريف.
[51581]:وفيه: ممن يأتي بهم الله.
[51582]:وفيه: للتعليق وجه فرفع بالابتداء وههنا جزم للتعليق وهو الأصح.
[51583]:وانظر في هذا كله تفسير الرازي 28/76.