قوله تعالى : { إن الذين تولوا } . انهزموا .
قوله تعالى : { منكم } . يا معشر المسلمين .
قوله تعالى : { يوم التقى الجمعان } . جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد ، وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم .
قوله تعالى : { إنما استزلهم الشيطان } . أي طلب زلتهم كما يقال : استعجلت فلاناً إذا طلبت عجلته ، وقيل : حملهم على الزلة وهي الخطيئة ، وقيل : أزل واستزل بمعنى واحد .
قوله تعالى : { ببعض ما كسبوا } . أي بشؤم ذنوبهم ، قال بعضهم : بتركهم المركز ، وقال الحسن ما كسبوا هو قبولهم من الشيطان ما وسوس إليهم من الهزيمة .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم " أحد " وما الذي أوجب لهم الفرار ، وأنه من تسويل الشيطان ، وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم . فهم الذين أدخلوه على أنفسهم ، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي ، لأنها مركبه ومدخله ، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان .
قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ثم أخبر أنه عفا عنهم بعدما فعلوا ما يوجب المؤاخذة ، وإلا فلو واخذهم لاستأصلهم .
{ إن الله غفور } للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار ، والمصائب المكفرة ، { حليم } لا يعاجل من عصاه ، بل يستأني به ، ويدعوه إلى الإنابة إليه ، والإقبال عليه .
ثم إن تاب وأناب قبل منه ، وصيره كأنه لم يجر منه ذنب ، ولم يصدر منه عيب ، فلله الحمد على إحسانه .
ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفورا يوم التقى الجمعان في الغزوة . إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها ؛ فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها ، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ ، واستزلهم فزلوا وسقطوا :
( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم ، إن الله غفور حليم ) . .
وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم . فكان هذا هو الذي كسبوه ، وهو الذي استزلهم الشيطان به . .
ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة ، فتفقد ثقتها في قوتها ، ويضعف بالله ارتباطها ، ويختل توازنها وتماسكها ، وتصبح عرضة للوساوس والهواجس ، بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه ! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس ، فيقودها إلى الزلة بعد الزلة ، وهي بعيدة عن الحمى الآمن ، والركن الركين .
ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الربيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء . الاستغفار الذي يردهم إلى الله ، ويقوي صلتهم به ، ويعفي قلوبهم من الأرجحة ، ويطرد عنهم الوساوس ، ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان ، ثغرة الانقطاع عن الله ، والبعد عن حماه . هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة ، حتى ينقطع بهم في التيه ، بعيدا بعيدا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه !
ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم ، فلم يدع الشيطان ينقطع بهم ، فعفا عنهم . . ويعرفهم بنفسه - سبحانه - فهو غفور حليم . لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم ؛ متى علم من نفوسهم التطلع إليه ، والاتصال به ؛ ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق !
استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفيّ ، وهي استزلال الشيطان إيّاهم ، وأراد بـ { يوم التقى الجمعان } يومَ أُحُد ، و( استزلّهم ) بمعنى أزلّهم أي جعلهم زالّين ، والزلل مستعار لفعل الخطيئة ، والسين والتاء فيه للتأكيد ، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النَّابغة :
وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة *** أبا جابر فاسْتَنْكحوا أم جابر
أي نكحوا . ومنه قوله تعالى : { واستغنى اللَّه } [ التغابن : 6 ] وقوله : { أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] . ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأنّ المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول ، فهو زلل واقع .
والمراد بالزّلل الانهزام ، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النَّصر قال تعالى : { وثبت أقدامنا } [ آل عمران : 147 ] .
( والباء في { ببعض ما كسبوا } للسببية وأريد { ببعض ما كسبوا } مفارقة موقفهم ، وعصيان أمر الرّسول ، والتنازع ، والتعجيل إلى الغنيمة ، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان ، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم ، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم ، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول عليه الصلاة والسّلام بالخروج ، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد . وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه ، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية .
ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة ، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم ، فلم يتفطّنوا إلى السبب ، والتبس عليهم بالمقارن ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطىء وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح ، وتزكية النفوس ، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين ، وتعظيمه عندهم ، وتنفيرهم من الشيطان ، والأفعالِ الذميمة ، ومعصية الرسول ، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين . وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله : { ثم صرفكم عنهم . . . } [ آل عمران : 152 ] الآيات . وضمير { منكم } راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا . وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة .
وللمفسّرين في قوله : { استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } احتمالات ذكرها صاحب « الكشاف » والفخر ، وهي بمعزل عن القصد .
وقوله : { ولقد عفا الله عنهم } أعيد الإخبار بالعفْو تأنيساً لهم كقوله : { ولقد عفا عنكم } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.