قوله تعالى : { أمن هو قانت } قرأ ابن كثير ، و نافع ، و حمزة :{ أمن } بتخفيف الميم ، وقرأ الآخرون بتشديدها ، فمن شدد فله وجهان : أحدهما أن تكون الميم في " أم " صلة فيكون معنى الكلام استفهاماً ، وجوابه محذوفاً مجازه : أمن هو قانت كمن هو غير قانت ؟ كقوله :{ أفمن شرح الله صدره للإسلام } ( الزمر-22 ) يعني كمن لم يشرح صدره . والوجه الآخر : أنه عطف على الاستفهام ، مجازه الذي جعل لله أنداداً أخير " أم من هو قانت " ومن قرأ بالتخفيف ، فهو ألف استفهام دخلت على معناه من هذا كالذي جعل لله أنداداً . وقيل : الألف في " أمن " بمعنى حرف النداء تقديره يا من هو قانت والعرب تنادي بالألف ، كما تنادي بالياء ، فتقول : أبني فلان ، ويا بني فلان ، فيكون معنى الآية : قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار ، " يا من هو قانت آناء الليل " إنك من أهل الجنة ، قاله ابن عباس . وفي رواية عطاء : نزلت في أبي بكر الصديق ، وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما . وعن ابن عمر أنها نزلت في عثمان ، وعن الكلبي : أنها نزلت في ابن مسعود ، وعمار ، وسلمان ، والقانت المقيم على الطاعة ، قال ابن عمر : القنوت قراءة القرآن ، وطول القيام { وآناء الليل } ساعاته . { ساجداً وقائما } يعني في الصلاة . { يحذر الآخرة } يخاف الآخرة { ويرجو رحمة ربه } يعني : كمن لا يفعل شيئاً من ذلك { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } قيل : " الذين يعلمون " : عمار ، و " الذين لا يعلمون " : أبو حذيفة المخزومي .
{ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } :
هذه مقابلة بين العامل بطاعة اللّه وغيره ، وبين العالم والجاهل ، وأن هذا من الأمور التي تقرر في العقول تباينها ، وعلم علما يقينا تفاوتها ، فليس المعرض عن طاعة ربه ، المتبع لهواه ، كمن هو قانت أي : مطيع للّه بأفضل العبادات وهي الصلاة ، وأفضل الأوقات وهو أوقات الليل ، فوصفه بكثرة العمل وأفضله ، ثم وصفه بالخوف والرجاء ، وذكر أن متعلق الخوف عذاب الآخرة ، على ما سلف من الذنوب ، وأن متعلق الرجاء ، رحمة اللّه ، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن .
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ } ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي ، وما له في ذلك من الأسرار والحكم { وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } شيئا من ذلك ؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء ، كما لا يستوي الليل والنهار ، والضياء والظلام ، والماء والنار .
{ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ } إذا ذكروا { أُولُو الْأَلْبَابِ } أي : أهل العقول الزكية الذكية ، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى ، فيؤثرون العلم على الجهل ، وطاعة اللّه على مخالفته ، لأن لهم عقولا ترشدهم للنظر في العواقب ، بخلاف من لا لب له ولا عقل ، فإنه يتخذ إلهه هواه .
وإلى جانب هذه الصورة النكدة من الإنسان ، يعرض صورة أخرى . . صورة القلب الخائف الوجل ، الذي يذكر الله ولا ينساه في سراء ولا ضراء ؛ والذي يعيش حياته على الأرض في حذر من الآخرة ؛ وفي تطلع إلى رحمة ربه وفضله ؛ وفي اتصال بالله ينشأ عنه العلم الصحيح المدرك لحقائق الوجود :
أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً ، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ? قل : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ? إنما يتذكر أولو الألباب .
وهي صورة مشرقة مرهفة . فالقنوت والطاعة والتوجه - وهو ساجد وقائم - وهذه الحساسية المرهفة - وهو يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه - وهذا الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة . وتمنح القلب نعمة الرؤية والالتقاط والتلقي . . هذه كلها ترسم صورة مشرقة وضيئة من البشر تقابل تلك الصورة النكدة المطموسة التي رسمتها الآية السابقة . فلا جرم يعقد هذه الموازنة :
( قل : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ? ) . .
فالعلم الحق هو المعرفة . هو إدراك الحق . هو تفتح البصيرة . هو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود . وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن ، ولا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى ، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس .
وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة . . هذا هو . . القنوت لله . وحساسية القلب ، واستشعار الحذر من الآخرة ، والتطلع إلى رحمة الله وفضله ؛ ومراقبة الله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة . . هذا هو الطريق ، ومن ثم يدرك اللب ويعرف ، وينتفع بما يرى وما يسمع وما يجرب ؛ وينتهي إلى الحقائق الكبرى الثابتة من وراء المشاهدات والتجارب الصغيرة . فأما الذين يقفون عند حدود التجارب المفردة ، والمشاهدات الظاهرة ، فهم جامعو معلومات وليسوا بالعلماء . .
وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المتفتحة المدركة لما وراء الظواهر من حقائق . المنتفعة بما ترى وتعلم ، التي تذكر الله في كل شيء تراه وتلمسه ولا تنساه ، ولا تنسى يوم لقاه . .
{ أمن هو قانت } قائم بوظائف الطاعات . { أناء الليل } ساعاته وأم متصلة بمحذوف تقديره الكافر خير " أم من هو قانت " أو منقطعة والمعنى بل { أمن هو قانت } كمن هو بضده ، وقرأ الحجازيان وحمزة بتخفيف الميم بمعنى أمن هو قانت لله كمن جعل له أندادا . { ساجدا وقائما } حالان من ضمير { قانت } ، وقرئا بالرفع على الخبر بعد الخبر والواو للجمع بين الصفتين { يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } في موضع الحال أو الاستئناف للتعليل . { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } نفى لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيه باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم . وقيل تقرير للأول على سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون . { إنما يتذكر أولوا الألباب } بأمثال هذه البيانات ، وقرئ " يذكر " بالإدغام .
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اليل ساجدا وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ }
قرأ نافع وابن كثير وحمزة وَحْدَهم { أَمَنْ } بتخفيف الميم على أن الهمزة دخلت على ( مَن ) الموصولة فيجوز أن تكون الهمزة همزة استفهام و ( مَن ) مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الكلام قبله من ذكر الكافر في قوله : { وجعَلَ لله أندَاداً } إلى قوله : { من أصحَابِ النَّارِ } [ الزمر : 8 ] . والاستفهام إنكاري والقرينة على إرادة الإِنكار تعقيبه بقوله : { قُلْ هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ } لظهور أن { هل } فيه للاستفهام الإِنكاري وبقرينة صلة الموصول . تقديره : أَمَن هو قانت أفضل أم من هو كافر ؟ والاستفهام حينئذٍ تقريري ويقدر له معادل محذوف دل عليه قوله عقبه : { قُلْ هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ } .
وجعل الفراء الهمزة للنداء و { من هو قانت } : النبي ، ناداه الله بالأوصاف العظيمة الأربعة لأنها أوصاف له ونداء لمن هم من أصحاب هذه الأوصاف ، يعني المؤمنين أن يقولوا : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، وعليه فإفراد ( قل ) مراعاة للفظ ( مَن ) المنادَى .
وقرأ الجمهور { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } بتشديد ميم ( مَن ) على أنه لفظ مركب من كلمتين ( أم ) و ( مَن ) فأدغمت ميم ( أم ) في ميم ( مَن ) . وفي معناه وجهان :
أحدهما } : أن تكون ( أم ) معادلة لهمزة استفهام محذوفة مع جملتها دلت عليها ( أم ) لاقتضائها معادلاً . ودل عليها تعقيبه ب { هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ } لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين . فالتقدير : أهذا الجاعل لله أنداداً الكافر خير أمَّنْ هو قانت ، والاستفهام حقيقي والمقصود لاَزمه ، وهو التنبيه على الخطأ عند التأمل .
والوجه الثاني : أن تكون ( أم ) منقطعة لمجرد الإِضراب الانتقالي . و ( أم ) تقتضي استفهاماً مقدراً بعدها . ومعنى الكلام : دع تهديدهم بعذاب النار وانتقِل بهم إلى هذا السؤال : الذي هو قانت ، وقائم ، ويحذر الله ويرجو رحمته . والمعنى : أذلك الإِنسان الذي جعل لله أنداداً هو قانت الخ ، والاستفهام مستعمل في التهكم لظهور أنه لا تتلاقَى تلك الصفاتُ الأربعُ مع صفة جعله لله أنداداً .
والقانت : العابد . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وقوموا للَّه قانتين } في سورة [ البقرة : 238 ] .
والآناء : جمع أَنىً مثل أمعاء ومَعىً ، وأقفاء وقفىً ، والأنى : الساعة ، ويقال أيضاً : إنَي بكسر الهمزة ، كما تقدم في قوله : { غير ناظرين إِناه } في سورة [ الأحزاب : 53 ] . وانتصب { ءَانَاءَ } على الظرف ل { قَانِتٌ } ، وتخصيص الليل بقنوتهم لأن العبادة بالليل أعون على تمحض القلب لذكر الله ، وأبعد عن مداخلة الرياء وأدل على إيثار عبادة الله على حظ النفس من الراحة والنوم ، فإن الليل أدعى إلى طلب الراحة فإذا آثر المرء العبادة فيه استنار قلبه بحب التقرب إلى الله قال تعالى : { إنّ ناشئة الليل هي أشدُ وطئاً وأقوم قِيلا } [ المزمل : 6 ] ، فلا جرم كان تخصيص الليل بالذكر دالاً على أن هذا القانت لا يخلو من السجود والقيام آناءَ النهار بدلالة فحوى الخطاب قال تعالى : { إن لك في النهار سبحاً } [ المزمل : 7 ] ، وبذلك يتم انطباق هذه الصلة على حال النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { ساجِداً وقائماً } حالان مُبينان ل { قَانِتٌ } ومؤكدان لمعناه . وجملة { يحذَرُ الآخِرَةَ ويرجوا رحمة ربه } حالان ، فالحال الأول والثاني لوصف عمَله الظاهر والجملتان اللتان هما ثالث ورابع لوصف عمل قلبه وهو أنه بين الخوف من سيئاته وفلتاته وبين الرجاء لرحمة ربه أن يثيبه على حسناته . وفي هذا تمام المقابلة بين حال المؤمنين الجارية على وفق حال نبيئهم صلى الله عليه وسلم وحال أهل الشرك الذين لا يدعون الله إلا في نادر الأوقات ، وهي أوقات الاضطرار ، ثم يشركون به بعد ذلك ، فلا اهتمام لهم إلا بعاجل الدنيا لا يحذرون الآخرة ولا يرجون ثوابها .
والرجاء والخوف من مقامات السالكين ، أي أوصافهم الثابتة التي لا تتحول . والرجاء : انتظار ما فيه نعيم وملاءمة للنفس . والخوف : انتظار ما هو مكروه للنفس . والمراد هنا : الملاءمة الأخروية لقوله : { يَحْذَرُ الآخِرَةَ } ، أي يحذر عقاب الآخرة فتعين أن الرجاء أيضاً المأمولُ في الآخرة . وللخوف مزيته من زجر النفس عما لا يرضي الله ، وللرجاء مزيته من حثها على ما يرضي الله وكلاهما أنيس السالكين .
وإنما ينشأ الرجاء على وجود أسبابه لأن المرء لا يرجو إلا ما يظنه حاصلاً ولا يظن المرء أمراً إلا إذا لاحت له دلائله ولوازمه ، لأن الظن ليس بمغالطة والمرء لا يغالط نفسه ، فالرجاء يتبع السعي لتحصيل المرجو قال الله تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] فإن ترقُّب المرء المنفعة من غير أسبابها فذلك الترقب يسمى غروراً .
وإنما يكون الرجاء أو الخوف ظنّاً مع تردد في المظنون ، أما المقطوع به فهو اليقين واليأس وكلاهما مذموم قال تعالى : { فلا يأمن مكر اللَّه إلا القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] ، وقال : { إنه لا ييأس من روح اللَّه إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] .
وقد بسط ذلك حجة الإِسلام أبو حامد في كتاب الرجاء والخوف من كتاب « الإِحياء » . ولله درّ أبي الحسن التهامي إذ يقول :
وإذا رجوتَ المستحيل فإنما *** تبني الرجاء على شَفير هارِ
وسئل الحسن البصري عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا تمنَ وإنما الرجاء ، قوله : { يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه } .
وقال بعض المفسرين أريد ب { مَن هو قانِتٌ } أبو بكر ، وقيل عمّار بن ياسر ، وقيل صُهيب ، وقيل : أبو ذرّ ، وقيل ابن مسعود ، وهي روايات ضعيفة ولا جرم أن هؤلاء المعدودين هم من أحقّ مَن تصدق عليه هذه الصلة فهي شاملة لهم ولكن محمل الموصول في الآية على تعميم كل من يصدق عليه معنى الصلة .
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب }
استئناف بياني موقعه كموقع قوله : { قُلْ تمتَّع بكفرك قليلاً } [ الزمر : 8 ] أثاره وصف المؤمن الطائع ، والمعنى : أَعْلِمهم يا محمد بأن هذا المؤمن العالِم بحق ربه ليس سواء للكافر الجاهل بربه . وإعادة فعل { قل } هنا للاهتمام بهذا المقول ولاسْترعاء الأسماع إليه .
والاستفهام هنا مستعمل في الإِنكار . والمقصود : إثبات عدم المساواة بين الفريقين ، وعدم المساواة يكنّى به عن التفضيل . والمراد : تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون ، كقوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر والمجاهدون في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم فضل اللَّه المجاهدين } [ النساء : 95 ] الآية ، فيعرف المفضّل بالتصريح كما في آية { لا يستوي القاعدون } [ النساء : 95 ] أو بالقرينة كما في قوله هنا : { هل يستوي الذين يعلمون } الخ لظهور أن العلم كمال ولتعقيبه بقوله : { إنما يتذكَّر أُولوا الألبابِ } . ولهذا كان نفي الاستواء في هذه الآية أبلغ من نفي المماثلة في قول النابغة :
يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم *** وليس جاهل شيء مثلَ من عَلِما
وفعل { يَعْلَمُونَ } في الموضعين منزّل منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول . والمعنى : الذين اتصفوا بصفة العلم ، وليس المقصود الذين علموا شيئاً معيّناً حتى يكون من حذف المفعولين اختصاراً إذ ليس المعنى عليه ، وقد دل على أن المراد الذين اتصفوا بصفة العلم قوله عقبه : { إنما يتذكر أولوا الألباب } أي أهل العقول ، والعقل والعلم مترادفان ، أي لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم ، مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه بل تختلط عليهم الحقائق وتجري أعمالهم على غير انتظام ، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة ووضعوا الكفر موضع الشكر . فتعين أن المعنى : لا يستوي مَن هو قانت آناء الليل يحذر ربّه ويرجوه ، ومَن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله . وإذ قد تقرر أن الذين جعلوا لله أنداداً هم الكفار بحكم قوله : { قُل تَمتَّع بِكُفرِكَ قَليلاً } ثبت أن الذين لا يستوون معهم هم المؤمنون ، أي هم أفضل منهم ، وإذ قد تقرر أن الكافرين من أصحاب النار فقد اقتضى أن المفضلين عليهم هم من أصحاب الجنة .
وعدل عن أن يقول : هل يستوي هذا وذاك ، إلى التعبير بالموصول إدماجاً للثناء على فريق ولذم فريق بأن أهل الإِيمان أهل علم وأهل الشرك أهل جهالة فأغنت الجملة بما فيها من إدماج عن ذكر جملتين ، فالذين يعلمون هم أهل الإِيمان ، قال تعالى : { إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] والذين لا يعلمون هم أهل الشرك الجاهلون ، قال تعالى : { قل أفغير اللَّه تأمروني أعبد أيها الجاهلون } [ الزمر : 64 ] .
وفي ذلك إشارة إلى أن الإِيمان أخو العلم لأن كليهما نور ومعرفةٌ حقّ ، وأن الكفر أخو الضلال لأنه والضلال ظلمة وأوهام باطلة .
هذا ووقع فعل { يَسْتَوِي } في حيّز النفي يكسبه عموم النفي لجميع جهات الاستواء . وإذ قد كان نفي الاستواء كناية عن الفضل آل إلى إثبات الفضل للذين يعلمون على وجه العموم ، فإنك ما تأملت مقاماً اقتحم فيه عالم وجاهل إلا وجدتَ للعالم فيه من السعادة ما لا تجده للجاهل ولنضرب لذلك مثلاً بمقامات ستةٍ هي جلّ وظائف الحياة الاجتماعية :
المقام الأول : الاهتداء إلى الشيء المقصود نواله بالعمل به وهو مقام العمل ، فالعالم بالشيء يهتدي إلى طرقه فيبلغ المقصود بيُسْر وفي قرب ويعلم ما هو من العمل أولى بالإِقبال عنه ، وغير العالم به يضل مسالكه ويضيع زمانه في طلبه ؛ فإما أن يخيب في سعيه وإمّا أن يناله بعد أن تتقاذفه الأرزاء وتنتابه النوائب وتختلط عليه الحقائق فربما يتوهم أنه بلغ المقصود حتى إذا انتبه وجد نفسه في غير مراده ، ومثله قوله تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } [ النور : 39 ] . ومن أجل هذا شاع تشبيه العلم بالنور والجهل بالظلمة .
المقام الثاني : ناشىء عن الأول وهو مقام السلام من نوائب الخطأ ومزلات المذلات ، فالعالم يعصمه علمه من ذلك ، والجاهل يريد السلامة فيقع في الهلكة ، فإن الخطأ قد يوقع في الهلاك من حيث طلب الفوز ومثَله قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] إذ مثَّلهم بالتاجر خرج يطلب فوائد الربح من تجارته فآب بالخسران ولذلك يشبه سَعي الجاهل بخبط العشواء ، ولذلك لم يزل أهل النصح يسهلون لطلبة العلم الوسائل التي تَقيهم الوقوع فيما لا طائل تحته من أعمالهم .
المقام الثالث : مقام أُنس الانكشاف فالعالم تتميز عنده المنافع والمضار وتنكشف له الحقائق فيكون مأنوساً بها واثقاً بصحة إدراكه وكلما انكشفت له حقيقة كان كمن لقي أنيساً بخلاف غير العالم بالأشياء فإنه في حيرة من أمره حين تختلط عليه المتشابهات فلا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع ، فإن اجتهد لنفسه خشِي الزلل وإن قلد خشِي زلل مقلَّده ، وهذا المعنى يدخل تحت قوله تعالى : { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } [ البقرة : 20 ] .
المقام الرابع : مقام الغِنَى عن الناس بمقدار العلم والمعلومات فكلما ازداد عِلم العالم قوِيَ غناه عن الناس في دينه ودنياه .
المقام الخامس : الإلتذاذ بالمعرفة ، وقد حصر فخر الدين الرازي اللذة في المعارف وهي لذة لا تقطعها الكثرة . وقد ضرب الله مثلاً بالظلّ إذ قال : { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظِل ولا الحرُور } [ فاطر : 19 21 ] فإن الجلوس في الظل يلتذ به أهل البلاد الحارة .
المقام السادس : صدور الآثار النافعة في مدى العمر مما يكسب ثناء الناس في العاجل وثواب الله في الآجل ، فإن العالم مصدر الارشاد والعلم دليل على الخير وقائد إليه قال الله تعالى : { إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] . والعلم على مزاولته ثوابٌ جزيل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده » .
وعلى بثه مثل ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير » .
فهذا التفاوت بين العالم والجاهل في صوره التي ذكرناها مشمول لنفي الاستواء الذي في قوله تعالى : { قُل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمونَ } وتتشعب من هذه المقامات فروع جمّة وهي على كثرتها تنضوي تحت معنى هذه الآية .
وقوله : { إنَّما يتذكَّر أُولوا الألبابِ } واقع موقع التعليل لنفي الاستواء بين العالم وغيره المقصودِ منه تفضيل العالم والعلم ، فإن كلمة ( إنما ) مركبة من حرفين ( إنَّ ) و ( مَا ) الكافّة أو النافية فكانت ( إِن ) فيه مفيدة لتعليل ما قبلها مغنية غَناء فاء التعليل إذ لا فرق بين ( إنَّ ) المفردة و ( إنَّ ) المركبة مع ( ما ) ، بل أفادها التركيب زيادة تأكيد وهو نفي الحكم الذي أثبتته ( إنَّ ) عن غير من أثبتته له . وقد أخذ في تعليل ذلك جانبُ إثبات التذكر للعالِمين ، ونفيه من غير العالمين ، بطريق الحصر لأن جانب التذكر هو جانب العمل الديني وهو المقصد الأهم في الإِسلام لأن به تزكية النفس والسعادة الأبدية قال النبي صلى الله عليه وسلم « مَن يُرِد الله به خيراً يفقهْهُ في الدين »
والألباب : العقول ، وأولو الألباب : هم أهل العقول الصحيحة ، وهم أهل العلم . فلما كان أهل العلم هم أهل التذكر دون غيرهم أفاد عدم استواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون . فليس قوله : { إنَّما يتذكر أولوا الألباب } كلاماً مستقلاً .