البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (9)

ولما شرح تعالى شيئاً من أحوال الظالمين الضالين المشركين ، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال : { أمّن هو قانت } .

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والأعمش ، وعيسى ، وشيبة ، والحسن في رواية : أمن ، بتخفيف الميم .

والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير ، ومقابله محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله { قل تمتع بكفرك } ؟ ويدل عليه قوله : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } .

ومن حذف المقابل قول الشاعر :

دعاني إليها القلب إني لأمرها *** سميع فما أدري أرشد طلابها

تقديره : أم غيّ .

وقال الفراء : الهمزة للنداء ، كأنه قيل : يا من هو قانت ، ويكون قوله قل خطابا له ، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده .

وضعف هذا القول أبو علي الفارسي ، ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة .

وقرأ باقي السبعة ، والحسن ، وقتادة ، والأعرج ، وأبو جعفر : أمّن ، بتشديد الميم ، وهي أم أدغمت ميمها في ميم من ، فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره : أهذا الكافر خير أم من هو قانت ؟ قال معناه الأخفش ، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب ، وهو أن يحذف المعادل الأول .

واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة والتقدير : بل أم من هو قانت صفته كذا ، كمن ليس كذلك .

وقال النحاس : أم بمعنى بل ، ومن بمعنى الذي ، والتقدير : بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله . انتهى .

ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل ، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة ، يدل عليه مقابله : { إنك من أصحاب النار } .

والقانت : المطيع ، قاله ابن عباس ، وتقدم الكلام في القنوت في البقرة .

وقرأ الجمهور : { ساجداً وقائماً } ، بالنصب على الحال ؛ والضحاك : برفعهما إما على النعت لقانت ، وإما على أنه خبر بعد خبر ، والواو للجمع بين الصفتين .

{ يحذر الآخرة } : أي عذاب الآخرة ، { ويرجو رحمة ربه } : أي حصولها ، وقيل : نعيم الجنة ، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف ، قال مقاتل : عمار ، وصهيب ، وابن مسعود ، وأبو ذر .

وقال ابن عمر : عثمان .

وقال ابن عباس في رواية الضحاك : أبو بكر وعمر .

وقال يحيى بن سلام : رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين .

وفي الآية دليل على فضل قيام الليل ، وأنه أرجح من قيام النهار .

ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ، فدل أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين ، فكما لا يستوي هذان ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي .

والمراد بالعلم هنا : ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه .

وقرأ : يذكر ، بإدغام تاء يتذكر في الذال .