فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (9)

ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين ، وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين ، فقال : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل } ، وهذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمعنى : ذلك الكافر أحسن حالاً ومآلاً ، أمن هو قائم بطاعات الله في السرّاء والضرّاء في ساعات الليل ، مستمرّ على ذلك ، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به . قرأ الحسن ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، والكسائي : { أمن } بالتشديد ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحمزة ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش بالتخفيف ، فعلى القراءة الأولى أم داخلة على من الموصولة ، وأدغمت الميم في الميم ، وأم هي المتصلة ، ومعادلها محذوف تقديره : الكافر خير أم الذي هو قانت . وقيل : هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة ، أي بل أمن هو قانت كالكافر ، وأما على القراءة الثانية ، فقيل : الهمزة للاستفهام دخلت على من ، والاستفهام للتقرير ، ومقابله محذوف ، أي أمن هو قانت كمن كفر . وقال الفراء : إن الهمزة في هذه القراءة للنداء ومن منادى ، وهي عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بقوله : { قل تمتع } ، والتقدير : يا من هو قانت ، قل : كيت ، وكيت . وقيل التقدير : يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة . ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفرّاء ، وضعف ذلك أبو حيان ، وقال : هو أجنبيّ عما قبله ، وعما بعده ، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو عليّ الفارسي ، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم ، والأخفش ، ولا وجه لذلك ، فإنا إذا ثبتت الرواية بطلت الدّراية .

وقد اختلف في تفسير القانت هنا ، فقيل المطيع . وقيل : الخاشع في صلاته . وقيل : القائم في صلاته . وقيل : الدّاعي لربه . قال النحاس : أصل القنوت الطاعة ، فكل ما قيل فيه ، فهو داخل في الطاعة ، والمراد بآناء الليل : ساعاته . وقيل : جوفه . وقيل : ما بين المغرب والعشاء ، وانتصاب { ساجدا وَقَائِماً } على الحال ، أي : جامعاً بين السجود والقيام ، وقدّم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة ، ومحل { يَحْذَرُ الآخرة } النصب على الحال أيضاً ، أي : يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير ومقاتل { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ } فيجمع بين الرجاء والخوف ، وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز . قيل : وفي الكلام حذف ، والتقدير : كمن لا يفعل شيئاً من ذلك كما يدل عليه السياق . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً آخر يتبين به الحقّ من الباطل ، فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي الذين يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق ، والذين لا يعلمون ذلك ، أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك ، أو المراد : العلماء والجهال ، ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل ، ولا بين العالم والجاهل . قال الزجاج : أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . وقيل : المراد بالذين يعلمون : هم العاملون بعلمهم ، فإنهم المنتفعون به ، لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } أي إنما يتعظ ويتدبر ، ويتفكر أصحاب العقول ، وهم المؤمنون لا الكفار ، فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولاً ، فهي كالعدم ، وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به بل من جهة الله سبحانه .

/خ12