السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (9)

ولما شرح الله تعالى صفات المشركين وتمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح المخلصين فقال تعالى : { أمّن هو قانتٌ } أي : قائم بوظائف الطاعات { آناء الليل } أي : جميع ساعاته ومن إطلاق القنوت على القيام قوله صلى الله عليه وسلم : «أفضل الصلاة صلاة القنوت » وهو القيام فيها ومنه القنوت لأنه يدعو قائماً ، وعن ابن عمر أنه قال : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا { أمن هو قانت } وعن ابن عباس : القنوت الطاعة لقوله تعالى : { كل له قانتون } ( البقرة : 116 ) أي : مطيعون ، وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بتخفيف الميم والباقون بتشديدها وفي القراءة الأولى وجهان ؛ أحدهما : أن الهمزة همزة الاستفهام دخلت على من بمعنى الذي والاستفهام للتقرير ومقابله محذوف تقديره أمن هو قانت كمن جعل لله أنداداً أو أمن هو قانت كغيره ، وأما القراءة الثانية : فأم داخلة على من الموصولة أيضاً فأدغمت الميم في الميم وفي أم حينئذ قولان ؛ أحدهما : أنها متصلة ومعاد لها محذوف تقديره الكافر خير أم الذي هو قانت ، والثاني : أنها منقطعة فتقدر ببل والهمزة أي : بل أمن هو قانت كغيره أو كالكافر المقول له تمتع بكفرك وقوله تعالى { ساجداً } أي : وراكعاً { وقائماً } أي : وقاعداً في صلاته حالان من ضمير قانت .

تنبيه : في هذه الآية دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار ، واختلف في سبب نزولها فقال ابن عباس : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقال الضحاك : في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقال أبو عمرو : في عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقال الكلبي : في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله تعالى عنهم .

وقوله تعالى : { يحذر الآخرة } أي : عذاب الآخرة يجوز أن يكون حالاً من الضمير في ساجداً وقائماً أو من الضمير في قانت وأن يكون مستأنفاً جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل : ما شأنه يقنت آناء الليل ويتعب نفسه ويكدها قيل : يحذر الآخرة { ويرجو رحمة } أي : جنة { ربه } الذي لم يزل يتقلب في إنعامه وفي الكلام حذف والتقدير كمن لا يفعل شيئاً من ذلك ، وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها .

{ قل هل يستوي } أي : في الرتبة { الذين يعلمون } أي : وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل ساجدين وقائمين { والذين لا يعلمون } أي : وهم صفتهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغ يشركون ، وإنما وصف الله تعالى الكفار بأنهم لا يعلمون لأن الله تعالى وإن أعطاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم ، فلهذا جعلهم الله تعالى كأنهم ليسوا من أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم ، وفي هذا تنبيه على فضيلة العلم ، قيل : لبعض العلماء : إنكم تقولون : العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء ، عند أبواب الملوك ولا نرى الملوك عند أبواب العلماء فأجاب بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه .

وقال في الكشاف : وأراد بالذين يعلمون العاملين من علماء الديانة كأنه جعل من لا يعمل غير عالم ، قال : وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنون ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله تعالى جهلة حيث جعل الله تعالى القانتين هم العلماء ، قال : ويجوز أن يراد على سبيل التشبيه أي : كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون ا . ه ، وعن الحسن : أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا تمنٍّ ، وإنما الرجاء قوله تعالى وتلا هذه الآية . { إنما يتذكر } أي : يتعظ { أولو الألباب } أي : أصحاب العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون في آخر سورة آل عمران بقوله تعالى : { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } ( آل عمران : 191 ) إلى آخرها .