المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (9)

وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة : «أمَن » بتخفيف الميم ، وهي قراءة أهل مكة والأعمش وعيسى وشيبة بن نصاح ، ورويت عن الحسن ، وضعفها الأخفش وأبو حاتم . وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي والحسن والأعرج وقتادة وأبو جعفر : «أمّن » بتشديد الميم ، فأما القراءة الأولى فلها وجهان ، أحدهما : وهو الأظهر أن الألف تقرير واستفهام ، وكأنه يقول : أهذا القانت خير أم هذا المذكور الذي يتمتع بكفره قليلاً وهو من أصحاب النار ؟ وفي الكلام حذف يدل عليه سياق الآيات مع قوله آخراً : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ، ونظيره قول الشاعر [ امرىء القيس ] : [ الطويل ]

فأقسم لو شيء أتانا رسوله*** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

ويوقف على هذا التأويل على قوله : { رحمة ربه } . والوجه الثاني : أن يكون الألف نداء ، والخطاب لأهل هذه الأوصاف ، كأنه يقول : أصحاب هذه الصفات { قل هي يستوي } فهذا السؤال ب { هل } هو للقانت ، ولا يوقف على التأويل على قوله : { رحمة ربه } ، وهذا معنى صحيح ، إلا أنه أجنبي من معنى الآيات قبله وبعده ، وضعفه أبو علي الفارسي . وقال مكي : إنه لا يجوز عند سيبويه ، لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهم وليس كما قال مكي ، أما مذهب سيبويه في أن حرف النداء لا يسقط مع الميم ، فنعم ، لأنه يقع الإلباس الكثير بذلك ، وأما أن هذا الموضع سقط فيه حرف النداء فلا ، والألف ثابتة فيه ظاهرة ، وأما القراءة بتشديد الميم فإنها : «أم » دخلت على : «من » والكلام على هذه القراءة لا يحتمل إلا المعادلة بين صنفين ، فيحتمل أن يكون ما يعادل «أم » متقدماً في التقدير ، كأنه يقول : أهذا الكافر خير أم من ، ويحتمل أن تكون «أم » قد ابتدأ بها بعد إضراب مقدر ويكون المعادل في آخر الكلام ، والأول أبين .

والقانت : المطيع ، وبهذا فسر ابن عباس رضي الله عنه ، والقنوت في كلام العرب : يقع على القراءة وعلى طول القيام في الصلاة ، وبهذا فسرها ابن عمر رضي الله عنه ، وروي عن ابن عباس أنه قال : من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة ، فليره الله في سواد الليل ساجداً أو قائماً ، ويقع القنوت على الدعاء وعلى الصمت عبادة . وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن القنوت : الطاعة . وقال جابر بن عبد الله : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل ؟ فقال : «طول القنوت »

والآناء : الساعات ، واحدها : أني كمعى ومنه قولهم : لن يعدو شيء أناه ، ومنه قوله تعالى : { غير ناظرين إناه } [ الأحزاب : 53 ] على بعض التأويلات في ذلك ويقال في واحدها أيضاً : أنى على وزن قفى ، ويقال فيه أيضاً : إني بكسر الهمزة وسكون النون ، ومنه قول الهذلي : [ البسيط ]

حلو ومر كعطف القدح مرته*** في كل إني حداه الليل ينتعل

وقرأ الضحاك : «ساجدٌ وقائمٌ » بالرفع فيهما .

وقوله تعالى : { يحذر الآخرة } معناه يحذر حالها وهولها . وقرأ سعيد بن جبير : «يحذر عذاب الآخرة » و { أولو } معناه أصحاب الألباب ، واحدهم : ذو .