تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (9)

قوله تعالى : { أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } قال بعضهم : هذه الآية صلة ما تقدم من قوله { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ } يقول : الذي تضرع إلى الله ، وأخلص دينه له ، ونسي ذلك ، وتركه إذا خول ذلك نعمة ، وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله كالذي هو قانت أي مطيع لله آناء الليل والنهار ، يحذر عذابه ، ويرجو رحمته ؟ ليسا بسواء عندكم : الذي أطاع الله في جميع أوقاته : حاذر تقصيره ، راج رحمته بطاعته . والذي عصى ربه ، ولم يطعه . أنهما ليسا بسواء ، ثم رأيتم أنهما قد استويا في نعم هذه الدار وسعتها وشدائدها ، وفي الحكمة التفريق بينهما ، فلا بد نم دار أخرى يفرق بينهما فيها : يثاب المحسن المطيع جزاء إحسانه وطاعته ، ويعاقب الكافر الظالم جزاء كفره وظلمه ، والله علم .

ومنهم من يجعل لهذه الآية مقابلا ، لكنه يقول : مقابلها ، ليس كالأول ، ولكن لم يذكر لها مقابلا ، ويقول : على ما عرفتم أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم . فعلى ذلك لا يستوي الذي أطاع ربه أناء الليل ، وأجهد نفسه ي عبادة الله والذي عصى ربه ، وكفر نعمه ، وقد ظهر الاستواء بينهما في هذه الدنيا ، فلابد من التفريق بينهما في دار أخرى .

ولو لم تكن دار أخرى ، فيها يفرق ، ويميز ، لكان خلق هذا العالم على ما كان باطلا سفها غير حكمة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { يحذر الآخرة } أي يحذر عذاب الآخرة . وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأ : يحذر عذاب الآخرة .

وقوله تعالى : { ويرجوا رحمة ربه } دلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الرجاء والحذر ؛ يرجو رحمته لا عمله ، ويحذر عذابه لتقصيره في عمله .

ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون أمنا ، وقد قال الله تعالى : { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] والخوف إذا جاوز حده يكون إياسا ، وقد قال الله تعالى : { إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] .

ويجب أن يكون المؤمن كما ذكر عز وجل : { يدعون ربهم خوفا وطمعا } [ السجدة : 16 ] وذكر : { ويدعوننا رغبا ورهبا } [ الأنبياء : 90 ] لا يجاوز أحدهما حده .

وجائز أن يكون قوله تعالى : { ويرجوا رحمة ربه } أي جنته على ما سمى الله تعالى الجنة رحمة في غير موضع ، لما برحمته تنال هي ، والله أعلم .

وقوله عز وجل : { قل هل يستوي الذين يعلمون } بمعرفة نعم الله والقيام بشكره والحذر من عصيانه وعذابه { والذين لا يعلمون } بكل ذلك ؟ جوابه أن يقال : لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، وهو ما قال : عز وجل : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] .

وقوله تعالى : { إنما يتذكر أولوا الألباب } إنما يتذكر بمواعظ الله أولو العقول والبصر والمعرفة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { آناء الليل } أي ساعات الليل ،

وقوله : { قانت } أي مطيع . وأصل القنوت القيام ، وهو القيام في الطاعة ، والله أعلم .

وفي قوله : { يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه } دلالة جواز الإرجاء لأنه لم يقطع على أحدهما دون الآخر ، وكذلك في قوله تعالى : { يدعون ربهم خوفا وطمعا } [ السجدة : 16 ] وفي قوله : { ويدعوننا رغبا ورهبا } [ الأنبياء : 90 ] .

وفي القطع على أحدهما كفر على ما ذكرنا في قوله : { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] وقوله : { إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] إذ المجاوزة في الخوف إياس ، والمجاوزة في حد الرجاء أمن ، وقد ذكرنا أنه كفر .