الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (9)

وقوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } بتخفيف الميمِ ، هي قراءة نافعٍ وابنِ كَثِيرٍ وحمزة ، والهَمْزةُ للتقرير والاستفهام ، وكأنه يقولُ : أهذا القانتُ خَيْرٌ أم هذا المذكورُ الذي يتمتَّعُ بكُفْرِهِ قليلاً ، وهو من أَصْحَاب النار ، وقرأ الباقونَ : { أَمَّنْ } بتشديدِ الميمِ ، والمعنى : أهذا الكافرُ خَيْرٌ أمَّنْ هُو قَانِتٌ ؟ والقانتُ : المطِيعُ ؛ وبهذا فسَّره ابنُ عبَّاس رضي اللَّه عنهما ، والقُنُوتُ في الكلام يَقَع عَلى القِراءةِ وَعَلى طُولِ القيامِ في الصلاةِ ؛ وبهذا فسَّره ابنُ عُمَرَ رَضِي اللَّه عنهما قال الفَخْرُ : قيل : إن المرادَ بقوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليل } : عُثْمَانُ بْنُ عفَّانَ ؛ لأنَّه كَان يُحْيِي الليل ، والصحيحُ أنها عامَّةٌ في كلِ من اتَّصَفَ بهذه الصِّفَةِ ، وفي هذه الآية تنبيهٌ على فضلِ قيامِ الليلِ ، انتهى ، ورُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ ؛ أَنَّه قالَ : «مَنْ أحَبَّ أَنْ يُهَوِّنَ اللَّهُ عليه الوقوفَ يوم القيامةِ ، فَلْيَرَهُ اللَّهُ في سَوَادِ اللَّيْلِ سَاجِداً وقائِماً » ، قال الشيخ عبدُ الحَقِّ في «العَاقِبَةِ » : وعن قَبِيصَةَ بْنِ سُفْيَانَ قال : رأيتُ سُفْيانَ الثَّوْرِيَّ في المنام بعد موته ؛ فقلتُ له : ما فعل اللَّه بك ؟ فقال :

نَظَرْتُ إلى رَبِّي عِيَاناً فَقَالَ لِي *** هَنِيئاً رِضَائي عَنْكَ يَا ابْنَ سَعِيدِ

لَقَدْ كُنْتَ قَوَّاماً إذَا اللَّيْلُ قَدْ دَجَا *** بِعَبْرَةِ مَحْزُونٍ وَقَلْبِ عَمِيدِ

فَدُونَكَ فاختر أَيَّ قَصْرٍ تُرِيدُه *** وَزُرْنِي فَإنِّي مِنْكَ غَيْرُ بَعِيدِ

وكَانَ شُعْبَة بن الحَجَّاج ، ومِسْعَرُ بْن كِدَامٍ ، رجلَيْنِ فَاضِلَيْنِ ، وكانَا مِنْ ثِقَاتِ المُحَدِّثينَ وحُفَّاظِهِم ، وكان شُعْبَةُ أَكْبَرَ فَمَاتَا ، قال أبو أحمد اليَزِيدِيُّ ، فرَأَيتُهما في النَّوْمِ ، وكنتُ إلى شُعْبَةَ أَمْيَلَ مِنِّي إلى مِسْعَرٍ ، فقلتُ : يا أبا بِسْطَامَ ؛ ما فَعَلَ اللَّهُ بك ؟ فقال : وَفَّقَكَ اللَّه يا بُنَيَّ ، احفظ ما أقُولُ :

حَبَانِي إلهي فِي الْجِنِانِ بِقُبَّة *** لَهَا أَلْفُ بَابٍ مِنْ لُجَيْنٍ وَجَوْهَرَا

وَقَالَ لِيَ الْجَبَّارُ : يَا شُعْبَةُ الَّذِي *** تَبَحَّرَ في جَمْعِ الْعُلُومِ وَأَكْثَرَا

تَمَتَّعْ بِقُرْبِي إنَّنِي عَنْكَ ذُو رِضا *** وَعَنْ عَبْدِيَ القَوَّامِ في اللَّيْلِ [ مِسْعَرَا ]

كفى مِسْعَراً عِزًّا بِأنْ سَيَزُورُنِي *** وَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِي وَيَدْنُو لِيَنْظُرَا

وهذا فِعَالِي بِالَّذِينَ تَنَسَّكُوا *** وَلَمْ يَأْلَفُوا في سَالِفِ الدَّهْرِ مُنْكَرَا

انتهى . والآناء : الساعاتُ واحدها أني كَمِعًي ويقال : إِنْي بكسر الهمزة وسكون النون ، وأَنا على وزن قَفاً .

وقوله سبحانه : { يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } قال ابْنُ الجوزيِّ في «المُنْتَخَبِ » : يقولُ اللَّه تعالى : «لاَ أجْمَعُ على عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلاَ أَمْنَيْنِ ؛ مَنْ خَافَنِي في الدُّنْيَا ، أمَّنتُهُ في الآخِرَةِ ، وَمَنْ أَمِنَنِي في الدُّنْيَا خَوَّفْتُهُ في الآخِرَةِ » ، يَا أَخِي :

امتطَى القَوْمُ مَطَايَا الدجى على مَرْكَبِ السَّهَرِ ***

فَمَا حَلُّوا وَلاَ حَلُّوا رِحَالَهُمْ حَتَّى السَّحَرْ

دَرَسُوا القُرآن فَغَرَسُوا بِأَيْدِي الْفِكْرِ أَزْكَى الشَّجَرْ ***

وَمَالُوا إلى النُّفُوسِ بِاللَّوْمِ ؛ فَلاَ تَسْأَلْ عَمَّا شَجَرْ

رَجَعُوا بِنَيْلِ القَبُولِ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرْ ***

وَوَقَفُوا على كَنْزِ النَّجَاةِ وَمَا عِنْدَكَ خَبَرْ

فإذا جَاء النَّهَارُ قَدَّمُوا طَعَامَ *** الجُوعِ وَقَالُوا لِلنَّفْسِ : هَذَا الَّذِي حَضَرْ

حَذَوْا عزَمَاتٍ طَاحَتِ الأَرْضُ *** بَيْنَهَا فَصَارَ سُرَاهُمْ في ظُهُورِ العَزَائِمْ

تَرَاهُمْ نُجُومَ اللَّيْلِ مَا يَبْتَغُونَهُ *** على عَاتِقِ الشعرى وَهَامِ النَّعَائِمْ

مَالَتْ بِالقَوْمِ رِيحُ السَّحَرِ مَيْلَ الشَّجَرِ بِالأَغْصَانْ ***

وَهَزَّ الخَوْفُ أَفْنَانْ القُلُوبِ فانتشرت الأَفْنَان

فَالقَلْبُ يَخْشَعُ واللِّسَانُ يَضْرَعُ وَالعَيْنُ تَدْمَعُ وَالوَقْتُ بُسْتَانْ ***

خَلَوْتُهُمْ بِالحَبِيبِ تَشْغَلُهُمْ عَنْ نُعْمٍ وَنَعْمَانْ

سُرُورُهُمْ أَسَاوِرُهُمْ وَالخُشُوعُ تِيجِانْ ***

خُضُوعُهُمْ حُلاَهُمْ وَمَاءُ دَمْعِهِمْ دُرٌّ وَمَرْجَانْ

بَاعُوا الْحِرْصَ بِالقَنَاعَةِ فَمَا مُلكُ أَنُوشِرْوَان ***

فَإذَا وَرَدُوا القِيَامَةَ تَلَقَّاهُمْ بَشَرٌ : لَوْلاَكُمْ مَا طَابَ الجِنَانْ

يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانْ ***

َأيْنَ أَنْتَ مِنْهُمْ يَا نَائِمُ كَيَقْظَانْ

كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ أَيْنَ الشُّجَاعُ مِنَ الجَبَانْ ***

مَا لِلْمَوَاعِظِ فِيكَ نُجْحٌ ، مَوْضِعُ القَلْبِ بِاللَّهْوِ مِنْكَ مَلآنْ

يَا أَخِي ، قِفْ على بَابِ النَّجَاحِ ولكن وُقُوفَ لُهْفَانْ ***

واركب سُفُنَ الصَّلاَحِ ، فهذا المَوْتُ طُوفَانْ

إخْوَانِي ، إنَّمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَرَاحِلْ ***

وَمَرْكَبُ العُمْرِ قَدْ قَارَبَ السَّاحِلْ

فانتبه لِنَفْسِكَ وازدجر يَا غَافِلْ ***

َيا هَذَا ، أَنْتَ مُقِيمٌ فيَّ مُنَاخِ الرَّاحِلِينَ

وَيْحَكَ اغتنم أَيَّامَ الْقُدْرَةِ قَبْلَ صَيْحَةِ *** الانْتِزَاعِ ، فَما أقْرَب مَا يُنْتَظَرْ

وَمَا أَقَلَّ المُكْثَ فِيمَا يَزُولُ وَيَتَغَيَّرْ

انتهى .