الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (9)

قوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } : قرأ الحَرميَّان : نافعٌ وابنُ كثير بتخفيف الميم ، والباقون بتشديدها . فأمَّا الأُولى ففيها وجهان ، أحدهما : أنها همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على " مَنْ " بمعنى الذي ، والاستفهامُ للتقريرِ ، ومقابلُه محذوفٌ ، تقديرُه : أمَنْ هو قانتٌ كمَنْ جعل للَّهِ تعالى أنداداً ، أو أَمَنْ هو قانِتٌ كغيرِه ، أو التقدير : أهذا القانِتُ خيرٌ أم الكافرُ المخاطبُ بقوله : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } ويَدُلُّ عليه قولُه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } فحذفَ خبرَ المبتدأ أو ما يعادِلُ المُسْتَفْهَم عنه . والتقديران الأوَّلان أَوْلى لقلةِ الحَذْفِ . ومن حَذْفِ المعادِلِ للدلالةِ قولُ الشاعر :

دَعاني إليها القلبُ إنِّي لأَمْرِها *** سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها

يريد : أم غَيٌّ . والثاني : أَنْ تكونَ الهمزةُ للنداءِ ، و " مَنْ " منادى ، ويكون المنادى هو النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهو المأمورُ بقولِه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ } كأنه قال : يا مَنْ هو قانِتٌ قل كَيْتَ وكَيْتَ ، كقولِ الآخرِ :

أزيدُ أخا وَرْقاءَ إنْ كنتَ ثائراً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفيه بُعْدٌ ، ولم يَقَعْ في القرآن نداءٌ بغير يا حتى يُحْمَلَ هذا عليه . وقد ضَعَّفَ الشيخُ هذا الوجهَ بأنه أيضاً أجنبيٌّ مِمَّا قبله وممَّا بعده . قلت : قد تقدَّمَ أنه ليس أجنبياً ممَّا بعدَه ؛ إذ المنادَى هو المأمورُ بالقولِ . وقد ضَعَّفَه الفارسي أيضاً بقريبٍ مِنْ هذا . وقد تَجَرَّأ على قارئِ هذه القراءةِ أبو حاتم والأخفش .

وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فهي " أم " داخلةً على " مَنْ " الموصولةِ أيضاً فأُدْغِمَتْ الميمُ . وفي " أم " حينئذٍ قولان ، أحدهما : أنها متصلةٌ ، ومعادِلُها محذوفٌ تقديرُه : آلكافرُ خيرٌ أم الذي هو قانِتٌ . وهذا معنى قولِ الأخفشِ . قال الشيخ : ويحتاج حَذْفُ المعادِلِ إذا كان أولَ إلى سَماعٍ " . وقيل : تقديرُه : أمَّنْ يَعْصي أمَّن هو مطيعٌ فيستويان . وحُذِفَ الخبرُ لدلالةِ قولِه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ } . والثاني : أنَّها منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ أي : بل أمَّن هو قانِتٌ كغيرِه أو كالكافر المقولِ له : تمتَّعْ بكفرِك . وقال أبو جعفر : " هي بمعنى بل ، و " مَنْ " بمعنى الذي تقديرُه : بل الذي هو قانتٌ أفضلُ مِمَّنْ ذُكِرَ قبله " . وانتُقِدَ عليه هذا التقديرُ : من حيث إنَّ مَنْ تَقَدَّم ليس له فضيلةٌ البتةَ حتى يكونَ هذا أفضلَ منه . والذي ينبغي أَنْ يُقَدَّرَ : " بل الذي هو قانِتٌ مِنْ أصحاب الجنة " ؛ لدلالة ما لقسيمِه عليه مِنْ قولِه : { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } . و " آناءَ " منصوبٌ على الظرفِ . وقد تقدَّم اشتقاقُه والكلامُ في مفردِه .

قوله : " ساجِداً وقائماً " حالان . وفي صاحبهما وجهان ، الظاهر منهما : أنه الضميرُ المستتر في " قانِتٌ " . والثاني : أنه الضميرُ المرفوعُ ب " يَحْذَرُ " قُدِّما على عامِلهما . والعامَّةُ على نصبِهما . وقرأ الضحاك برفعهما على أحد وجهين : إمَّا النعتِ ل " قَانِتٌ " ، وإمَّا أنهما خبرٌ بعد خبر .

قوله : " يَحْذَر " يجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في " قانتٌ " وأن يكونَ/ حالاً من الضمير في " ساجداً وقائماً " ، وأَنْ يكونَ مستأنفاً جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل : ما شأنُه يَقْنُتُ آناءَ الليل ويُتْعِبُ نفسَه ويُكُدُّها ؟ فقيل : يَحْذَرُ الآخرَة ويَرْجُو رحمةَ ربِّه ، أي : عذابَ الآخرةِ . وقُرِئ { إِنَّمَا يَذَّكَّرُ أُوْلُو } بإدغامِ التاءِ في الذَّال .