ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ( 9 ) } . { أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ } هذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى أذلك الكافر أحسن حالا ومآلا أمن هو قانت بطاعات الله في السراء والضراء ، في ساعات الليل ، مستمر على ذلك ، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به ؟ قرئ : أمن بالتشديد وبالتخفيف ، فعلى القراءة الأولى ( أ ) داخلة على { من } الموصولة ، وأدغمت الميم في الميم وأم هي المتصلة ، ومعادلها محذوف ، أي الكافر خير ؟ أم الذي هو قانت ؟ وقيل ، هي المنقطعة مقدرة ببل والهمزة ، أي بل أمن هو قانت كالكافر ؟ وعلى الثانية الهمزة للاستفهام ، والاستفهام للتقرير ، ومقابله محذوف ، أي أمن هو قانت كمن كفر ؟ وقال الفراء إن الهمزة في هذه القراءة للنداء ، ومن منادى ، وهي عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بقوله :
{ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا } والتقدير : يا من هو قانت قل : كيت وكيت ، وقيل : التقدير يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة ، ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفراء ، وضعف ذلك أبو حيان وقال هو أجنبي عما قبله وعما بعده ، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو علي الفارسي ، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم والأخفش ولا وجه لذلك ، فإنها إذا ثبتت الرواية بطلت الدراية .
وقد اختلف في تفسير القانت هنا فقيل المطيع ، وقيل : الخاشع أو القائم في صلاته ، وقيل : الداعي لربه ، قال النحاس : أصل القنوت الطاعة فكل ما قيل فيه فهو داخل في الطاعة .
{ آَنَاءَ اللَّيْلِ } جمع إني بكسر الهمزة والقصر كمعي وأمعاء ، وقيل : واحدها أنو ، يقال : مضى من الليل أنيان وأنوان والمراد بآناء الليل ساعاته وأوقاته ، وقيل : جوفه ، وقيل : ما بين المغرب والعشاء ، وقيل : أوله وأوسطه وآخره .
{ سَاجِدًا وَقَائِمًا } منصوبان على الحال ، أي جامعا بين السجود والقيام في الصلاة ، وقدم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة ، والآية دلت على ترجيح قيام الليل على النهار ، وأنه أفضل منه وذلك لأن الليل أستر فيكون أبعد عن الرياء ، ولأن ظلمة الليل تجمع الهم وتمنع البصر عن النظر إلى الأشياء ، وإذا صار القلب فارغا عن الاشتغال بالأحوال الخارجية رجع إلى المطلوب الأصلي ، وهو الخشوع في الصلاة ، ومعرفة من يصلي له .
وقيل لأن الليل وقت النوم ومظنة الراحة فيكون قيامه أشق على النفس ، فيكون الثواب فيه أكثر قال ابن عباس : من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الليل ، ذكره القرطبي .
{ يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ } أي يحذر عذاب الآخرة قال سعيد بن جبير ومقاتل { وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } فيجمع بين الرجاء والخوف وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز قيل : وفي الكلام حذف تقديره كمن لا يفعل شيئا من ذلك ، كما يدل عليه السياق ، قيل : الرحمة هنا المغفرة ، وقيل : الجنة ، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل ، وأولى أن ينسب إلى الله تعالى .
وعن ابن عمر أنه تلا هذه الآية وقال : " ذاك عثمان بن عفان " . وفي لفظ نزلت في عثمان بن عفان وعن ابن عباس قال : نزلت في عمار بن ياسر .
وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال كيف تجدك ؟ قال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو ، وأمنه الذي يخاف ) أخرجوه من طريق سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال الترمذي : غريب ، وقد رواه بعضهم عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا .
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم قولا آخر ، يتبين به الحق من الباطل فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ } إن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق { وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } ذلك أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك أو المراد العلماء والجهال ، ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل ، ولا بين العالم والجاهل . قال الزجاج أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي .
وقيل المراد بالذين يعلمون هم العالمون بعلمهم ، فإنهم المنتفعون به لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم ، وقيل : افتتح الله الآية بالعمل وختمها بالعلم ، لأن العمل من باب المجاهدات والعلم من باب المكاشفات ، وهو النهاية فإذا حصل للإنسان دل ذلك على كماله وفضله .
{ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي إنما يتعظ بوعظ الله ويتدبر ويتفكر فيه أصحاب العقول الصافية ، والقلوب النيرة ، وهم المؤمنون لا الكفار ، فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولا فهي كالعدم ، وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به ، بل من جهة الله سبحانه بعد الأمر بما ذكر من القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي ، لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.