فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (9)

ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ( 9 ) } . { أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ } هذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى أذلك الكافر أحسن حالا ومآلا أمن هو قانت بطاعات الله في السراء والضراء ، في ساعات الليل ، مستمر على ذلك ، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به ؟ قرئ : أمن بالتشديد وبالتخفيف ، فعلى القراءة الأولى ( أ ) داخلة على { من } الموصولة ، وأدغمت الميم في الميم وأم هي المتصلة ، ومعادلها محذوف ، أي الكافر خير ؟ أم الذي هو قانت ؟ وقيل ، هي المنقطعة مقدرة ببل والهمزة ، أي بل أمن هو قانت كالكافر ؟ وعلى الثانية الهمزة للاستفهام ، والاستفهام للتقرير ، ومقابله محذوف ، أي أمن هو قانت كمن كفر ؟ وقال الفراء إن الهمزة في هذه القراءة للنداء ، ومن منادى ، وهي عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بقوله :

{ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا } والتقدير : يا من هو قانت قل : كيت وكيت ، وقيل : التقدير يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة ، ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفراء ، وضعف ذلك أبو حيان وقال هو أجنبي عما قبله وعما بعده ، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو علي الفارسي ، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم والأخفش ولا وجه لذلك ، فإنها إذا ثبتت الرواية بطلت الدراية .

وقد اختلف في تفسير القانت هنا فقيل المطيع ، وقيل : الخاشع أو القائم في صلاته ، وقيل : الداعي لربه ، قال النحاس : أصل القنوت الطاعة فكل ما قيل فيه فهو داخل في الطاعة .

{ آَنَاءَ اللَّيْلِ } جمع إني بكسر الهمزة والقصر كمعي وأمعاء ، وقيل : واحدها أنو ، يقال : مضى من الليل أنيان وأنوان والمراد بآناء الليل ساعاته وأوقاته ، وقيل : جوفه ، وقيل : ما بين المغرب والعشاء ، وقيل : أوله وأوسطه وآخره .

{ سَاجِدًا وَقَائِمًا } منصوبان على الحال ، أي جامعا بين السجود والقيام في الصلاة ، وقدم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة ، والآية دلت على ترجيح قيام الليل على النهار ، وأنه أفضل منه وذلك لأن الليل أستر فيكون أبعد عن الرياء ، ولأن ظلمة الليل تجمع الهم وتمنع البصر عن النظر إلى الأشياء ، وإذا صار القلب فارغا عن الاشتغال بالأحوال الخارجية رجع إلى المطلوب الأصلي ، وهو الخشوع في الصلاة ، ومعرفة من يصلي له .

وقيل لأن الليل وقت النوم ومظنة الراحة فيكون قيامه أشق على النفس ، فيكون الثواب فيه أكثر قال ابن عباس : من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الليل ، ذكره القرطبي .

{ يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ } أي يحذر عذاب الآخرة قال سعيد بن جبير ومقاتل { وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } فيجمع بين الرجاء والخوف وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز قيل : وفي الكلام حذف تقديره كمن لا يفعل شيئا من ذلك ، كما يدل عليه السياق ، قيل : الرحمة هنا المغفرة ، وقيل : الجنة ، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل ، وأولى أن ينسب إلى الله تعالى .

وعن ابن عمر أنه تلا هذه الآية وقال : " ذاك عثمان بن عفان " . وفي لفظ نزلت في عثمان بن عفان وعن ابن عباس قال : نزلت في عمار بن ياسر .

وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال كيف تجدك ؟ قال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو ، وأمنه الذي يخاف ) أخرجوه من طريق سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال الترمذي : غريب ، وقد رواه بعضهم عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا .

ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم قولا آخر ، يتبين به الحق من الباطل فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ } إن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق { وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } ذلك أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك أو المراد العلماء والجهال ، ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل ، ولا بين العالم والجاهل . قال الزجاج أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي .

وقيل المراد بالذين يعلمون هم العالمون بعلمهم ، فإنهم المنتفعون به لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم ، وقيل : افتتح الله الآية بالعمل وختمها بالعلم ، لأن العمل من باب المجاهدات والعلم من باب المكاشفات ، وهو النهاية فإذا حصل للإنسان دل ذلك على كماله وفضله .

{ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي إنما يتعظ بوعظ الله ويتدبر ويتفكر فيه أصحاب العقول الصافية ، والقلوب النيرة ، وهم المؤمنون لا الكفار ، فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولا فهي كالعدم ، وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به ، بل من جهة الله سبحانه بعد الأمر بما ذكر من القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي ، لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم .