قوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } ، قيل : هو مصدر كالسعير والحريق . وقيل : هو مفعول كالجريح والقتيل ، وهو من التأخير . ومنه النسيئة في البيع ، يقال : أنسأ الله من أجله أي أخر ، وهو ممدود مهموز عند أكثر القراء ، وقرأ ورش عن نافع من طريق البخاري : بتشديد الياء من غير همز ، وقد قيل : أصله الهمزة فخفف . وقيل : هو من النسيان على معنى المنسي أي : المتروك . ومعنى النسيء : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر ، وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم ، وكأن ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام ، وكانت عامة معيشهم من الصيد والغارة ، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي ، وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم ، فنسؤوا أي : أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر ، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر ، فيحرمون صفر ويستحلون المحرم ، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع ، هكذا شهرا بعد شهر ، حتى استدار التحريم على السنة كلها . فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه ، وذلك بعد دهر طويل ، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته . كما : أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف الفربري ، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا محمد بن سلام ، ثنا عبد الواحد ، ثنا عبد الوهاب ، ثنا أيوب عن محمد بن سيرين ، عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " . وقال : " أي شهر هذا ؟ قلنا الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : أليس ذا الحجة ؟ قلنا : بلى ، قال : أي بلد هذا ؟ قلنا الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : أليس البلد الحرام ؟ قلنا : بلى ، قال : فأي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلى ، قال : فإن دماءكم وأموالكم ، قال محمد : أحسبه قال : وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ، ألا هل بلغت ألا هل بلغت " ؟ قالوا : وكان قد استمر النسيء بهم ، فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهر آخر . قال مجاهد : كانوا يحجون في كل شهر عامين ، فحجوا في شهر ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، وكذلك في الشهور ، فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه فوافق حجة شهر الحج الشروع وهو ذو الحجة ، فوقف بعرفة يوم التاسع ، وخطب اليوم العاشر بمنى ، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان ، وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السماوات والأرض ، وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا يتبدل في مستأنف الأيام . واختلفوا في أول من نسأ النسيء : فقال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد : أول من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة ، وكانوا ثلاثة : أبو ثمامة جناد بن عوف بن أمية الكناني . وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال : له نعيم بن ثعلبة ، وكان أميرا على الناس بالموسم ، فإذا هم الناس بالصدر ، قام فخطب الناس فقال : لا مرد لما قضيت ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ، فيقول له المشركون : لبيك ، ثم يسألونه أن ينسأهم شهرا يغيرون فيه ، فيقول : فإن صفرا العام حرام ، فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ، ونزعوا الأسنة والأزجة ، وإن قال حلال عقدوا الأوتار ، وشدوا الأزجة ، وأغاروا . وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له : جنادة بن عوف ، وهو الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو رجل من بني كنانة يقال له : القلمس ، قال شاعرهم :
وفينا ناسئ الشهر القلمس *** . . .
وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم . وقال جوبير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، ثنا جرير عن سهيل ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب ، وهو يجر قصبه في النار " . فهذا الذي ذكرنا هو النسيء الذي ذكره الله تعالى فقال : { إنما النسيء زيادة في الكفر } ، يريد زيادة كفر على كفرهم .
قوله تعالى : { يضل به الذين كفروا } ، قرأ حمزة والكسائي و حفص : يضل بضم الياء وفتح الضاد ، كقوله تعالى : { زين لهم سوء أعمالهم } ، وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد ، وهي قراءة الحسن و مجاهد على معنى يضل به الذين كفروا الناس ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الضاد ، لأنهم هم الضالون لقوله : { يحلونه } ، يعني النسيء { عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا } ، أي : ليوافقوا ، والمواطأة : الموافقة .
قوله تعالى : { عدة ما حرم الله } ، يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام ، لئلا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر ، كما حرم الله فيكون موافقة العدد ، { فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم } ، قال ابن عباس : زين لهم الشيطان ، { والله لا يهدي القوم الكافرين } .
{ 37 } { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
النسيء : هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم ، وكان من جملة بدعهم الباطلة ، أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال ، في بعض أوقات الأشهر الحرم ، رأوا -بآرائهم الفاسدة- أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم ، التي حرم اللّه القتال فيها ، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم ، أو يقدموه ، ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا ، فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه ، وجعلوا الشهر الحلال حراما ، فهذا -كما أخبر اللّه عنهم- أنه زيادة في كفرهم وضلالهم ، لما فيه من المحاذير .
منها : أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه ، واللّه ورسوله بريئان منه .
ومنها : أنهم قلبوا الدين ، فجعلوا الحلال حراما ، والحرام حلالا .
ومنها : أنهم مَوَّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده ، ولبسوا عليهم دينهم ، واستعملوا الخداع والحيلة في دين اللّه .
ومنها : أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها ، يزول قبحها عن النفوس ، وربما ظن أنها عوائد حسنة ، فحصل من الغلط والضلال ما حصل ، ولهذا قال : { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } أي : ليوافقوها في العدد ، فيحلوا ما حرم اللّه .
{ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } أي : زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة ، فرأوها حسنة ، بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم .
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } أي : الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم ، فلو جاءتهم كل آية ، لم يؤمنوا .
( إنما النسيء زيادة في الكفر . يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ، ليواطئوا عدة ما حرم اللّه ، فيحلوا ما حرم اللّه . زين لهم سوء أعمالهم . واللّه لا يهدي القوم الكافرين ) .
قال مجاهد - رضي اللّه عنه - : كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : أيها الناس . إني لا أعاب ولا أخاب ، ولا مرد لما أقول . أنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر . ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله : ( ليواطئوا عدة ما حرم اللّه ) قال : يعني الأربعة . فيحلوا ما حرم اللّه تأخير هذا الشهر الحرام .
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم : هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس ، وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام ، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده ؛ فلما كان هو قال : اخرجوا بنا . قالوا له : هذا المحرم . قال : ننسئه العام . هما العام صفران . فإذا كان العام القابل قضينا . . جعلناهما محرمين . . قال ففعل ذلك . فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر . حرموه مع المحرم . هما محرمان . .
فهذان قولان في الآية ، وصورتان من صور النسيء . في الصورة الأولى يحرم صفر بدل المحرم فالشهور المحرمة أربعة في العدد ، ولكنها ليست هي التي نص عليها اللّه ، بسبب إحلال شهر المحرم . وفي الصورة الثانية يحرم في عام ثلاثة أشهر وفي عام آخر خمسة أشهر فالمجموع ثمانية في عامين بمتوسط أربعة في العام ولكن حرمة المحرم ضاعت في أحدهما ، وحل صفر ضاع في ثانيهما !
وهذه كتلك في إحلال ما حرم اللّه ؛ والمخالفة عن شرع اللّه . .
ذلك أنه - كما أسلفنا - كفر مزاولة التشريع إلى جانب كفر الاعتقاد .
ويخدعون بما فيه من تلاعب وتحريف وتأويل . .
فإذا هم يرون السوء حسناً ، ويرون قبح الانحراف جمالاً ، ولا يدركون ما هم فيه من ضلال ولجاج في الكفر بهذه الأعمال .
( واللّه لا يهدي القوم الكافرين ) . .
الذين ستروا قلوبهم عن الهدى وستروا دلائل الهدى عن قلوبهم . فاستحقوا بذلك أن يتركهم اللّه لما هم فيه من ظلام وضلال .
{ إنما النّسيء } أي تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد ، وعن نافع برواية ورش " إنما النسي " بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها . وقرئ " النسي " بحذفها والنسء والنساء وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره . { زيادة في الكفر } لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم . { يُضل به الذين كفروا } ضلالا زائدا . وقرأ حمزة والكسائي وحفص { يضل } على البناء للمفعول ، وعن يعقوب { يضل } على أن الفعل لله تعالى . { يحلّونه عاما } يحلون المنسي من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهرا آخر . { ويحرّمونه عاما } فيتركونه على حرمته . قيل : أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم ينادي في القبائل إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه . والجملتان تفسير للضلال أو حال . { ليواطئوا عدة ما حرّم الله } أي ليوافقوا عدة الأربعة المحرمة ، واللام متعلقة بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين { فيحلّوا ما حرّم الله } بمواطأة العدة وحدها من غير مراعاة الوقت . { زُيّن لهم سوء أعمالهم } وقرئ على البناء للفاعل وهو الله تعالى ، والمعنى خذلهم وأضلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا . { والله لا يهدي القوم الكافرين } هداية موصلة إلى الاهتداء .
{ النسيء } على وزن فعيل مصدر بمعنى التأخير ، تقول العرب أنسأ الله في أجلك ونسأ في أجلك . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من سره النساء في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه »{[5641]} وقرأ جمهور الناس والسبعة «النسيء » كما تقدم ، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم معه في الشاذ{[5642]} «النسيّء » بشد الياء ، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد والزهري «النسيء » ، وقرأ أيضاً فيما روي عنه «النسء » على وزن الَّنسع وقرأت فرقة «النسي » . فأما «النسيء » بالمد والهمز فقال أبو علي هو مصدر مثل النذير والنكير وعذير الحي{[5643]} ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول لأنه يكون المعنى إنما المؤخر زيادة والمؤخر الشهر ولا يكون الشهر زيادة في الكفر .
قال القاضي أبو محمد : وقال أبو حاتم هو فعيل بمعنى مفعول ، وينفصل عن إلزام أبي علي بأن يقدر مضاف كان المعنى إنما إنساء النسيء ، وقاله الطبري هو من معنى الزيادة أي زيادتهم في الأشهر ، وقال أبو وائل كان النسيء رجلاً من بني كنانة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وأما «النسي » فهو الأول بعينه خففت الهمزة وقيل قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء ، وأما «النسء » هو مصدر من نسأ إذا أخر ، وأما «النسي » فقيل تخفيف همزة النسيء وذلك على غير قياس ، وقال الطبري هو مصدر من نسي ينسى إذا ترك .
قال القاضي أبو محمد : والنسيء هو فعل العرب في تأخيرهم الحرمة ، وقوله { زيادة في الكفر } أي جار في كفرهم بالله وخلاف منهم للحق فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه{[5644]} .
قال القاضي أبو محمد : ومما وجد في أشعارها من هذا المعنى قول بعضهم : [ الوفر ]
ومنا منسىء الشهر القلمس{[5645]}***
نسؤوا الشهور بها وكانوا أهلها*** من قبلكم والعز لم يتحول{[5646]}
ومنه قول جذل الطعان : [ الوافر ]
وقد علمت معدّ أَنَّ قومي*** كرام الناس أن لهم كراما
فأي الناس فاتونا بوتر*** وأي الناس لم تعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد*** شهور الحل نجعلها حراما{[5647]}
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يَضِل » بفتح الياء وكسر الضاد ، وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون «يُضِل » بضم الياء وكسر الضاد فإما على معنى يضل الله وإما على معنى يضل به الذين كفروا أتباعهم ، ف { الذين } في التأويل الأول في موضع نصب ، وفي الثاني في موضع رفع ، وقرأ عاصم أيضاً وحمزة والكسائي وابن مسعود فيما روي عنه «يُضِل » بضم الياء وفتح الضاد على المفعول الذي لم يسم فاعله ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { زين } للتناسب في اللفظ ، وقرأ أبو رجاء «يَضل » من ضل يضل على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها وهي لغتان يقال ضل يضل وضل يضل والوزن الذي ذكرناه يفرق بينهما ، وكذلك يروى قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «حتى يضَل الرجل إن يدر كم صلى » بفتح الضاد وكسرها{[5648]} ، وقوله { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } معناه عاماً من الأعوام وليس يريد أن تلك مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام .
قال القاضي أبو محمد : وقد تأول بعض الناس القصة أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم عليهم صفر بدلاً منه ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقه وأحل صفر ، ومشت الشهور مستقيمة ، ورأت هذه الطائفة أن هذه كانت حالة القوم .
قال القاضي أبو محمد : والذي قدمناه قبل أليق بألفاظ الآيات ، وقد بينه مجاهد وأبو مالك ، وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «إن الزمان قد استدار » مع أن هذا الأمر كله قد تقضى والله أعلم . أي ذلك كان ، وقوله { ليواطئوا } معناه ليوافقوا والمواطأة الموافقة تواطأ الرجلان على كذا إذا اتفقا عليه ، ومعنى ليواطئوا عدة ما حرم الله ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد .
قال القاضي أبو محمد : فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها بمثابة أن يفطر أحد رمضان ويصوم شهراً من السنة بغير مرض أو سفر ، وقوله { زين } يحتمل هذا التزيين أن يضاف إلى الله عز وجل والمراد به خلقه لكفرهم وإقرارهم عليه وتحبيبه لهم ، ويحتمل أن يضاف إلى مغويهم ومضلهم من الإنس والجن ، ثم أخبر تعالى أنه لا يهديهم ولا يرشدهم ، وهو عموم معناه الخصوص في الموافين أو عموم مطلق لكن لا هداية من حيث هم كفار .
قال القاضي أبو محمد : وذكر أبو علي البغدادي في أمر «النسيء » أنه كان إذا صدر الناس من منى قام رجل يقال له نعيم بن ثعلبة فيقول أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء فيقولون أنسئنا شهراً أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر .
قال القاضي أبو محمد : واسم نعيم لم يعرف في هذا وما أرى ذلك إلا كما حكى النقاش من بني فقيم كانوا يسمون القلامس واحدهم قلمس وكانوا يفتون العرب في الموسم ، يقوم كبيرهم في الحجر ويقوم آخر عند الباب ويقوم آخر عند الركن فيفتون .
قال القاضي أبو محمد : فهم على هذا عدة ، منهم نعيم وصفوان ومنهم ذرية القلمس حذيفة وغيرهم .
قال القاضي أبو محمد : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «لا عدوى ولا هامة ولا صفر »{[5649]} ، فقال بعض الناس : إنه يريد بقوله لا صفر هذا النسيء ، وقيل غير ذلك .
استئناف بياني ناشئ عن قوله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله } [ التوبة : 36 ] الآية لأنّ ذلك كالمقدّمة إلى المقصود وهو إبطال النسيء وتشنيعه .
والنسيء يطلق على الشهر الحرام الذي أرجئت حرمتُه وجعلت لشهر آخر فالنسيء فَعِيل بمعنى مفعول من نَسَأ المهموز اللام ، ويطلق مصدراً بوزن فعيل مثل نَذير من قوله : { كيف نذير } [ الملك : 17 ] ، ومثل النكير والعذر وفعله نسأ المهموز ، أي أخّر ، فالنسيء بهمزة بعد الياء في المشهور . وبذلك قرأه جمهور العشرة . وقرأه ورش عن نافع بياء مشدّدة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامِها في أختها ، والإخبارُ عن النسيء بأنّه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله : { إنما نحن فتنة } [ البقرة : 102 ] .
والنسيءُ عند العرب تأخير يجعلونه لشهرٍ حرام فيصيرونه حلالاً ويحرّمون شهراً آخر من الأشهر الحلال عوضاً عنه في عامه .
والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أنّ العرب سَنَتهم قمرية تبعاً للأشهر ، فكانت سنتهم اثني عشر شهراً قمرية تامة ، وداموا على ذلك قروناً طويلة ثم بدا لهم فجعلوا النسيء .
وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل أنّ العرب كانوا أصحاب حروب وغارات فكان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها فقالوا لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نُصيب فيها شيئاً لنهلِكَنّ . وسكت المفسّرون عمّا نشأ بعد قول العرب هذا ، ووقع في بعض ما رواه الطبري والقرطبي ما يوهم أنّ أوّل من نسأ لهم النسيء هو جنادة بن عوف وليس الأمر ذلك لأنّ جنادة بن عوف أدرك الإسلام وأمر النسيء متوغّل في القدم والذي يجب اعتماده أنّ أول من نسأ النسيء هو حذيفة بن عبد نعيم أو فقيم ( ولعل نعيم تحريف فقيم لقول ابن عطية اسم نعيم لم يعرف في هذا ) . وهو الملقب بالقَلَمَّس ولا يوجد ذكر بني فقيم في « جمهرة ابن حزم » وقد ذكره صاحب « القاموس » وابن عطية . قال ابن حزم أول من نسأ الشهور سرير ( كذا ولعلّه سري ) بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ثم ابن أخيه عدي بن عامر بن ثعلبة . وفي ابن عطية خلاف ذلك قال : انتدب القلمس وهو حذيفة بن عبدِ فقيم فنسأ لهم الشهور . ثم خلفه ابنه عبّاد . ثم ابنه قُلَع ، ثم ابنه أمية ، ثم ابنه عوف ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة وعليه قام الإسلامُ قال ابن عطية كان بنو فقيم أهل دين في العرب وتمسُّكِ بشرع إبراهيم فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب . وفي « تفسير القرطبي » عن الضحّاك عن ابن عباس أول من نسأ عَمْرو بن لُحَي ( أي الذي أدخل عبادة الأصنام في العرب وبحر البحيرة وسيّب السائبة ) .
وقال الكلبي أول من نسأ رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة .
قال ابن حزم : كلّ من صارت إليه هذه المرتبة ( أي مرتبة النسيء ) كان يسمّى القلمس . وقال القرطبي : كان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة لترييس العرب إيّاه . وكان القلمس يقف عند جمرة العقبة ويقول : اللهم إنّي ناسىءُ الشهور وواضعُها مواضعها ولا أعاب ولا أجاب . اللهم أنّي قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخّر انفروا على اسم الله تعالى . وكان آخر النسأة جنادة بن عوف ويكنى أبا ثمامة وكان ذا رأي فيهم وكان يحضر الموسم على حمار له فينادي أيها الناس ألا إنّ أبا ثمامة لا يُعاب ولا يجاب . ولا مرد لما يقول فيقولون أنْسئنا شهراً ، أي أخِّرْ عنّا حرمة المحرّم واجعلها في صفر فيُحل لهم المحرّم وينادي : ألا إنّ آلهتكم قد حرمت العام صفر فيحرّمونه ذلك العام فإذا حجّوا في ذي الحجّة تركوا المحرّم وسَمّوه صفراً فإذا انسلخ ذو الحجّة خرجوا في محرّم وغزوا فيه وأغاروا وغنموا لأنّه صار صفراً فيكون لهم في عامهم ذلك صفران وفي العام القابل يصير ذو الحجة بالنسبة إليهم ذا القعدة ويصير محرّم ذا الحجة فيحجون في محرم يفعلون ذلك عامين متتابعين ثم يبدلون فيحجّون في شهر صفر عامين ولاءً ثم كذلك .
وقال السهيلي في « الروض الأنف » إنّ تأخير بعض الشهور بعد مدة لقصد تأخير الحج عن وقته القمري ، تحرياً منهم للسنة الشمسية ، فكانوا يؤخّرونه في كلّ عام أحد عشر يوماً أو أكثر قليلاً ، حتى يعود الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة ، فيعود إلى وقته ونسَب إلى شيخه أبي بكر بن العربي أنّ ذلك اعتبار منهم بالشهور العجمية ولعلّه تبع في هذا قول إياس بن معاوية الذي ذكره القرطبي ، وأحسب أنّه اشتباه .
وكان النسيء بأيدي بني فقيم من كنانة وأول من نسأ الشهور هو حذيفة بن عبد بن فقيم .
وتقريب زمن ابتداء العمل بالنسيء أنّه في أواخر القرن الثالث قبل الهجرة ، أي في حدود سنة عشرين ومائتين قبل الهجرة .
وصيغة القصر في قوله : { إنما النسىء زيادة في الكفر } تقتضي أنّه لا يعدو كونه من أثر الكفر لمحبّة الاعتداءِ والغارات فهو قصر حقيقي ، ويلزم من كونه زيادة في الكفر أنّ الذين وضعوه ليسوا إلاّ كافرين وما هم بمصلحين ، وما الذين تابعوهم إلاّ كافرون كذلك وما هم بمتّقين .
ووجه كونه كفراً أنّهم يعلمون أنّ الله شرع لهم الحجّ ووقتَّه بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسمّاة بأسماء تميّزها عن الاختلاط ، فلمّا وضعوا النسيء قد علموا أنّهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه ، ويسمّونه بغير اسمه ، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعيّن له ، أعني شهر ذي الحجّة ولذلك سمّوه النسيء اسماً مشتقّاً من مادة النَّسَاء وهو التأخير ، فهم قد اعترفوا بأنّه تأخير شيء عن وقته ، وهم في ذلك مستخفّون بشرع الله تعالى ، ومخالفون لما وقّت لهم عن تعمّد مثبتين الحلَّ لشهر حرام والحرمةَ لشهر غير حرام ، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به ، فلذلك يشبه جعلَهم لله شركاء ، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه فهو بهذا الاعتبار كالكفر ، فلا دلالة في الآية على أنّ الأعمال السيّئة توجب كفر فاعلها ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل .
وحرف { في } المفيد الظرفية متعلّق « بزيادة » لأنّ الزيادة تتعدّى بفي { يزيد في الخلق ما يشاء } [ فاطر : 1 ] فالزيادة في الأجسام تقتضي حلول تلك الزيادة في الجسم المشابهِ للظرف ويجوز أن يكون تأويله أنّه لمّا كان إحداثه من أعمال المشركين في شؤون ديانتهم وكان فيه إبطال لمواقيت الحجّ ولحرمة الشهر الحرام اعتبر زيادة في الكفر بمعنى في أعمال الكفر وإن لم يكن في ذاته كفراً وهذا كما يقول السلف : إنّ الإيمان يزيد وينقص يريدون به يزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها مع الجزم بأنّ ماهية الإيمان لا تزيد ولا تنقص وهذا كقوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] ، أي صلاتكم . على أنّ إطلاق اسم الإيمان على أعمال دين الإسلام وإطلاق اسم الكفر على أعمال الجاهلية ممّا طفحت به أقوال الكتاب والسنّة مع اتّفاق جمهور علماء الأمّة على أنّ الأعمال غيرَ الاعتقاد لا تقتضي إيماناً ولا كفراً .
وعلى الاحتمال الثاني فتأويله بتقدير مضاف ، أي زيادة في أحوال أهل الكفر ، أي أمر من الضلال زيد على ما هم فيه من الكفر بضدّ قوله تعالى : { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } [ مريم : 76 ] . وهذان التأويلان متقاربان لا خلاف بينهما إلا بالاعتبار ، فالتأويل الأول يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه مجاز مرسل والتأويل الثاني يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه إيجازُ حذف بتقدير مضاف .
وجملة { يضل به الذين كفروا } خبر ثان عن النسيء أي هو ضلال مستمرّ ، لما اقتضاه الفعل المضارع من التجدّد .
وجملة { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } بيان لسبب كونه ضلالاً .
وقد اختير المضارع لهذه الأفعال لدلالته على التجدّد والاستمرار ، أي هم في ضلال متجدّد مستمرّ بتجدّد سببه ، وهو تحليله تارة وتحريمه أخرى ، ومواطأة عدّة ما حرم الله .
وإسناد الضلال إلى الذين كفروا يقتضي أنّ النسيء كان عمله مطّرداً بين جميع المشركين من العرب فما وقع في « تفسير الطبري » عن ابن عباس والضحّاك من قولهما وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يفعلونه ويعظمونه ليس معناه اختصاصهم بالنسيء ولكنّهم ابتدأوا بمتابعته .
وقرأ الجمهور { يضل } بفتح التحتية وقرأه حفص عن عاصم ، وحمزةُ ، والكسائي وخلَف ، ويعقوب بضمّ التحتية على أنّهم يضلّون غيرهم .
والتنكير والوحدة في قوله : { عاماً } في الموضعين للنوعية ، أي يحلّونه في بعض الأعوام ويحرّمونه في بعض الأعوام ، فهو كالوحدة في قول الشاعر :
وليس المراد أنّ ذلك يوماً غبّ يوم ، فكذلك في الآية ليس المراد أنّ النسيء يقع عاماً غبّ عام كما ظنّه بعض المفسّرين . ونظيرُه قول أبي الطيّب :
فيوماً بخيل تطْرُد الرومَ عنهم *** ويوماً بجُود تَطرد الفقرَ والجَدْبا
( يريد تارة تدفع عنهم العدوّ وتارة تدفع عنهم الفقر والجدب ) وإنّما يكون ذلك حين حلول العدوّ بهم وإصابةِ الفقر والجدب بلادَهم ، ولذلك فسّره المعري في كتاب « مُعْجِز أحمد » بأنْ قال : « فإنّ قَصَدَهم الرومُ طَرَدْتَهم بخيلك وإن نازَلَهم فقر وجدب كشفتَه عنهم بجُودك وإفضالك » .
وقد أبقي الكلام مجملاً لعدم تعلّق الغرض في هذا المقام ببيان كيفية عمل النسيء ، ولعلّ لهم فيه كيفيات مختلفة هي معروفة عند السامعين .
ومحلّ الذمّ هو ما يحصل في عمل النسيء من تغيير أوقات الحجّ المعيّنة من الله في غير أيامها في سنين كثيرة ، ومن تغيير حرمة بعض الأشهر الحرم في سنين كثيرة ويتعلّق قوله : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } بقوله : { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } أي يفعلون ذلك ليوافقوا عدد الأشهر الحرم فتبقى أربعة .
والموطأة الموافقة ، وهي مفاعلة عن الوَطىء شبه التماثل في المقدار وفي الفعل بالتوافق ( في ) وطيء الأرجل ومن هذا قولهم ( وقوع الحافر على الحافر ) .
و { عِدّة ما حرم الله } هي عدّة الأشهر الحرم الأربعة .
وظاهر هذا أنّه تأويل عنهم وضربٌ من المعذرة ، فلا يناسب عده في سياق التشنيع بعملهم والتوبيخ لهم ، ولكن ذِكْره ليُرتَّب عليه قولُه : { فيحلوا ما حرم الله } فإنّه يتفرّع على محاولتهم موافقة عدّة ما حرم الله أن يحلّوا ما حرّم الله ، وهذا نداء على فساد دينهم واضطرابه فإنّهم يحتفظون بعدد الأشهر الحرم الذي ليس له مزيد أثر في الدين ، وإنّما هو عدد تابع لتعيين الأشهر الحرم ، ويفرّطون في نفس الحُرمة فيحلون الشهر الحرام ، ثم يزيدون باطلاً آخر فيحرّمون الشهر الحلال . فقد احتفظوا بالعدد وأفسدوا المعدود .
وتوجيه عطف { فيحلوا } على مجرور لام التعليل في قوله : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } هو تنزيل الأمر المترتّب على العلّة منزلة المقصود من التعليل وإن لم يكن قصد صاحبه به التعليل ، على طريقة التهكّم والتخطئة مثل قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] .
والإتيان بالموصول في قوله : { عدة ما حرم الله } دون أن يعبّر بنحو عدة الأشهر الحرم ، للإشارة إلى تعليل عملهم في اعتقادهم بأنّهم حافظوا على عدة الأشهر التي حرّمها الله تعظيماً . ففيه تعريض بالتهكّم بهم .
والإظهار في قوله : { فيحلوا ما حرم الله } دون أن يقال فيُحلوه ، لزيادة التصريح بتسجيل شناعة عملهم ، وهو مخالفتهم أمر الله تعالى وإبطالُهم حرمة بعض الأشهر الحرم ، تلك الحرمة التي لأجلها زعموا أنّهم يحرّمون بعض الأشهر الحلال حفاظاً على عدّة الأشهر التي حرّمها الله تعالى .
وجملة { زين لهم سوء أعمالهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً : لأنّ ما حكي من اضطراب حالهم يثير سؤال السائلين عن سبب هذا الضغث من الضلال الذي تمَلأُوه فقيل : لأنّهم زيّن لهم سوء أعمالهم ، أي لأنّ الشيطان زيّن لهم سوء أعمالهم فحسّن لهم القبيح .
والتزيين التحسين ، أي جعلُ شيء زيْناً ، وهو إذا يسند إلى مَا لا تتغيّر حقيقته فلا يصير حسناً ، يؤذن بأنّ التحسين تلبيس . وتقدّم التزيينُ في قوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } في سورة البقرة ( 212 ) . وقوله : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } في سورة الأنعام ( 108 ) .
وفي هذا الاستئناف معنى التعليل لحالهم العجيبة حتّى يزول تعجّب السامع منها .
وجملة { والله لا يهدي القوم الكافرين } عطف على جملة { زين لهم سوء أعمالهم } فهي مشمولة لمعنى الاستئناف البياني المراد منه التعليل لتلك الحالة الغريبة ، لأنّ التعجيب من تلك الحالة يستلزم التعجيب من دوامهم على ضلالهم وعدم اهتدائهم إلى ما في صنيعهم من الاضطراب ، حتّى يقلعوا عن ضلالهم ، فبعد أن أفيد السائل بأنّ سبب ذلك الاضطراب هو تزيين الشيطان لهم سوءَ أعمالهم ، أفيد بأنّ دوامهم عليه لأنّ الله أمسك عنهم اللطف والتوفيق ، اللذيْن بهما يتفطّن الضالّ لضلاله فيقلع عنه ، جزاءاً لهم على ما أسلفوه من الكفر ، فلم يزالوا في دركات الضلال إلى أقصى غاية .
والإظهار في مقام الإضمار بقوله : { القوم الكافرين } لقصد إفادة التعميم الذي يشملهم وغيرهم ، أي : هذا شأن الله مع جميع الكافرين .
واعلم أنّ حرمة الأزمان والبقاع إنّما تُتلقَّى عن الوحي الإلهي لأنّ الله الذي خلق هذا العالم هو الذي يسُنّ له نظامَه فبذلك تستقرّ حرمة كلّ ذي حرمة في نفوس جميع الناس إذ ليس في ذلك عمل لبعضهم دون بعض ، فإذا أدخل على ما جعله الله من ذلك تغييرٌ تقشّعت الحرمة من النفوس فلا يرضى فريق بما وضعه غيره من الفرق ، فلذلك كان النسيء زيادة في الكفر لأنّه من الأوضاع التي اصطلح عليها الناس ، كما اصطلحوا على عبادة الأصنام بتلقين عمرو ابن لحَيّ .
وقد أوْحَى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنّ العامَ الذي يَحُجّ فيه يصادف يومُ الحجّ منه يومَ تسعة من ذي الحجة ، على الحساب الذي يتسلسل من يوم خلق الله السماوات والأرض ، وأنّ فيه يندحض أثر النسيء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع « إنّ الزمان قد استدار كهيئتِه يومَ خلق اللَّهُ السماوات والأرض » ، قالوا فصادفت حجّة أبي بكر سنة تسع أنّها وقعت في شهر ذي القعدة بحساب النسيء ، فجاءت حجّةُ النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجّة في الحساب الذي جعله الله يومَ خلق السماوات والأرض .