ولما فهم من هذا إبطال النسيء لأنه فعل أهل الجاهلية فلا تقوى فيه ، كان كأنه قيل : أفما في النسيء تقوى فإن{[36157]} سببه إنما هو الخوف من انتهاك حرمة الله بالقتال في الشهر الذي حرمه ؟وذلك أنهم كانوا أصحاب غارات وحروب ، وكانوا يحترمون الأشهر الحرم عن القتال حتى لو رأى الإنسان قاتل أبيه{[36158]} لا مانع منه لم يعرض له ، فكان إذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم{[36159]} تركه ، وكان يشق عليهم ترك ذلك ثلاثة أشهر متوالية ، فجعلوا النسيء لذلك ، فقيل تصريحاً{[36160]} بما أفهمه ما مضى : ليس فيه شيء من ذلك : { إنما النسيء } أي تأخير الشهر إلى شهر{[36161]} آخر على أنه مصدر نسأ نسيئاً - إذا أخره ، أو هو اسم مفعول ، أي{[36162]} الشهر الذي تؤخر العرب حرمته من الأشهر الحرم عن وقتها { زيادة في الكفر } أي لأنه على خلاف ما شرعه الله ، ستر تحريم ما أظهر الله تحريمه .
ولما بين ما في النسيء من القباحة{[36163]} ، تحرر أنهم وقعوا على ضد مرادهم فإنهم كانوا لو قاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا وهم معتقدون الحرمة خائفون عاقبتها فكانوا غير{[36164]} خارجين عن دائرة التقوى بالكلية ، فإذا هم بتحليله قد صاروا{[36165]} خارجين عن{[36166]} دائرتها بمراحل لارتكابهم فيه كل عظيمة مع الأمن لاعتقاد الحل بتحليل ذلك الذي اعتقدوه رباُ ، فكان يقول : إني لا أجاب{[36167]} ولا أعاب ، وإنه لا مراد لقضائي ، وإني حللت{[36168]} المحرم وحرمت صفراً - إلى غير ذلك من الكلام الذي لايليق إلا بالإله ؛ وذلك الذي معنى قوله تعالى بياناً لما قبله : { يضل به } أي بهذا التأخير الذي هو النسيء { الذين كفروا } أي يحصل لهم بذلك ضلال عما شرعه الله - هذا على قراءة الجماعة والمعنى على قراءة حمزة والكسائي وحفص - بالبناء للمفعول : يضلهم مضل من قبل الله ، وعلى قراءة يعقوب - بالضم : يضلهم الله ؛ ثم بين ضلالهم بقوله : { يحلونه } أي ذلك الشهر ، وعبر عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة إشارة إلى أنهم يفعلونه ولو لم يضطرهم إلى ذلك جدب سنة ولا عض زمان ، بل بمجرد التشهي فقال : { عاماً ويحرمونه عاماً } هكذا دائماً كلما أرادوا . وليس المراد أنهم كل سنة يفعلون ذلك من غير {[36169]}إجلال لسنة{[36170]} من السنين ، وهذا الفعل نسخ منهم مع أنهم يجعلون النسخ من معايب الدين { ليواطئوا } أي يوافقوا { عدة ما حرم الله } أي المحيط بالجلال والإكرام في كون الأشهر الحرم أربعة { فيحلوا } أي فيتسبب عن هذا الفعل أن يحلوا { ما حرم الله } أي الملك الأعظم منها كلها ، فلا يدع لهم هذا الفعل شهراً إلا انتهكوا حرمته فأرادوا بذلك عدم انتهاك الحرمة فإذا هم لم يدعوا حرمة إلا انتهكوها ، فما أبعده من ضلال !
ولما انهتكت{[36171]} بهذا البيان قباحة فعلهم ، كان كأنه{[36172]} قيل : إن هذا لعجب ! ما حملهم على ذلك ؟ فقيل : { زين } أي زين مزين ، وقرىء شاذاً بإسناد الفعل إلى الله { لهم سوء أعمالهم } أي حتى رأوا حسناً{[36173]} ما ليس بالحسن فضلوا ولم يهتدوا ، فعل الله بهم ذلك لما علم من طبعهم على الكفر فلم يهدهم { والله } أي الذي له صفات الكمال { لا يهدي } أي يخلق الهداية في القلوب { القوم الكافرين{[36174]}* } أي الذي طبعهم على{[36175]} الكفر فهم عريقون فيه لا ينفكون عنه ؛ والنسيء - قال في القاموس - : الاسم من نسأ الشيء بمعنى{[36176]} زجره وساقه وأخره ، قال : وشهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية فنهى الله عز وجل عنه ؛ وقال ابن الأثير في النهاية ؛ والنسيء فعول بمعنى مفعول ، وقال ابن فارس في المجمل : والنسيء في كتاب الله التأخير ، وكانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول : أنا الذي لا يرد لي قضاء ! فيقولون{[36177]} : أنسئنا شهراً ، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر - انتهى .
ومادة نسأ تدور على التغريب{[36178]} ، وسبب فعلهم هذا أنهم كانوا ربما أرادوا قتالاً في شهر حرام فيحلونه ، ويحرمون مكانه شهراً من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر ؛ قال ابن فارس : وذلك أنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها ، لأن معاشهم في الغارة فيحل لهم الكناني المحرم - انتهى . وكان النسأة من بني فقيم من كنانة ، وكان أول من فعل ذلك منهم القلمس{[36179]} وهو حذيفة بن عبد ابن فقيم ، وآخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة{[36180]} جنادة بن عوف بن أمية بن قلع{[36181]} بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة . نسأ أربعين سنة ، كانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه{[36182]} ، فحرم الأشهر الحرم الأربعة ، فإذا أرادوا أن يحل منها شيئاً أحل المحرم فأحلوه ، وحرم مكانه صفراً فحرموه ، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم ، فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال : اللهم إني قد{[36183]} أحللت لهم{[36184]} أحد الصفرين الصفر الأول ، ونسأت الآخر للعام المقبل - ذكر ذلك أهل السير ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول من نسأ عمرو بن لحي .
و{[36185]} تحقيق معنى ما كانت العرب تفعله واختلاف أسماء الشهور به حتى يوجب دوران السنين فلا تصادف{[36186]} أسماء الشهور مسمياتها إلا الحين بعد الحين عسر قل من أتى فيه بما يتضح به قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما مضى " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " وها أنا{[36187]} أذكر فيه ما لا يبقى بعده لبس إن شاء الله تعالى ، فمعنى قوله : ونسأت الآخر للعام المقبل ، أنه إذا أحل المحرم وسماه صفراً ابتدأ السنة بعده بالمحرم ثم صفر إلى آخرها ، فيصير بين صفر وذي الحجة الذي وقع النسيء فيه شهران ، وقد كان ينبغي أن يكون بينهما شهر واحد ، فأخر هذا الذي ينبغي إلى العام المقبل ، {[36188]}فالمعنى : وأخرت الصفر الآخر عن محله إلى العام المقبل فإذا جاء العام المقبل{[36189]} انتهى تأخره ، وإذا انتهى رجع إلى محله ، ويمكن أن يتنزل على هذا قول أبي عبيد في غريب الحديث ، قال بعد النصف من الجزء الثالث منه في شرح الاستدارة : إن بدء ذلك - والله أعلم - أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة ، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام ، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم ، فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير{[36190]} حربهم فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم ، وهذا هو النسيء الذي قال الله { إنما النسيء } [ براءة : 37 ] الآية ، وكان ذلك في كنانة هم الذين كانوا ينسأون الشهور على العرب ، والنسيء هو التأخير ، فكانوا يمكثون بذلك زماناً يحرمون صفراً وهم يريدون بذلك المحرم ويقولون : هو أحد الصفرين ، وقد تأول بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا صفر " على هذا ، ثم يحتاجون أيضاً إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم{[36191]} إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع ، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك ، فكذلك يتدافع شهر{[36192]} بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها ، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به{[36193]} ، وذلك بعد دهر طويل ، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الزمان قد استدار كهيئته{[36194]} يوم خلق الله السماوات والأرض " يقول : رجعت الأشهر الحرم إلى موضعها وبطل النسيء ، وقد زعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاماً ، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه ، قال أبو عبيد : الأول أحب إليّ لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الزمان قد استدار " وليس في التفسير الأخير استدارة ، وعلى هذا التفسير الذي فسرناه قد يكون قوله { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } مصدقاً له لأنهم إذا حرموا العام المحرم وفي قابل صفراً ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضاً أحلوه وحرموا الذي بعده ، فهذا تأويل قوله في التفسير ، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً . وقال أبو حيان في النهر ما حاصله : كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات ، فيشق عليهم توالي الأشهر الحرم ، وكان{[36195]} بنو فقيم أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام ، فانتدب منهم القلمس{[36196]} وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم ، فنسأ{[36197]} الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ثم خلفه ابنه قلع ثم خلفه ابنه أمية ثم خلفه ابنه عوف ثم ابنه جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام ، كانوا إذا فرغوا من حجهم جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا : أنسئنا شهراً ، فيحل المحرم ، ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ويسمون ذلك الصفر المحرم ويسمون ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول - وهكذا سائر الشهور ، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ؛ وقال البغوي : قال مجاهد : كانوا يحجون في كل شهر عامين ، فحجوا في ذي الحجة عامين وحجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذلك في الشهور ، فوافقت حجة أبي بكر السنة الثانية من ذي القعدة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوادع ، فوافق حجه أشهر الحج{[36198]} المشروع وهو ذو الحجة ، وقال عبد الرزاق{[36199]} في تفسيره : أخبرنا معمر عن ابن{[36200]} أبي نجيح عن مجاهد في قوله { إنما النسيء زيادة في الكفر } قال : فرض الله الحج في ذي الحجة ، فكان المشركون يسمون الأشهر : ذو{[36201]} الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال{[36202]} وذا القعدة وذا الحجة ، ثم يحجون فيه مرة أخرى ، ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ، فيسمونه - أحسبه قال - المحرم{[36203]} صفر ، ثم يسمون رجب بجمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان رمضان ، ورمضان شوالاً{[36204]} .
ثم يسمون ذا القعدة شوالاً . ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، {[36205]}ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه ، واسمه عندهم ذو الحجة ، ثم عادوا {[36206]}كمثل هذه الصفة{[36207]} فكانوا يحجون عامين في كل شهر حتى وافق حجة أبي بكر الآخرة من العامين في ذي القعدة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج ، فوافق ذلك ذا الحجة ، فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله{[36208]} السماوات والأرض " وقال ابن إسحاق في السيرة ؛ سألت ابن أبي نجيح عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ؛ كانت قريش يدخلون في كل سنة شهراً ، وإنما كانوا يوافقون{[36209]} ذا الحجة كل اثنتي{[36210]} عشرة سنة مرة ، فوفق الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي حج ذا الحجة ، فحج فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " ، فقلت لابن أبي نجيح : فكيف بحجة أبي بكر وعتاب بن أسيد ؟ فقال : على ما كان الناس يحجون عليه ، ثم قال ابن أبي نجيح : كانوا يحجون في الحجة ثم العام المقبل في المحرم ثم صفر حتى{[36211]} يبلغوا اثنى عشر شهراً - انتهى .
وقوله هذا يوهم{[36212]} أن في حج أبي بكر وعتاب رضي الله عنهما اختلالاً{[36213]} ، وتقدم عن المهدوي وغيره{[36214]} التصريح بأنه كان في ذي القعدة - وفيه نظر ، لأن السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه نودي فيها بتحريم النسيء وغيره من أمور الجاهلية ، فلا شك أنه لم يكن في ذلك العام إنساء ، ولما مضى من الشهر{[36215]} الذي حج فيه عشرة أشهر ، وكان الحادي عشر وهو ذو القعدة سار النبي صلى الله عليه وسلم في أواخره إلى الحج موافياً لهلال ذي الحجة ، فلما وقف بعرفة أخبر أن الزمان قد استدار ، فعلم قطعاً أن استدارته كانت في حجة أبي بكر ، وكذا في سنة ثمان وهي السنة التي حج فيها عتاب بالمسلمين ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يعتبرون حساب أهل الجاهلية لا نسأتهم ولا غير نسأتهم ، لأنه يلزم من القول بأنهم اعتبروا أمر النسأة أنهم اعتبروا ما هو زيادة من الكفر ، وهذا ما لا يقوله ذو مسكة ، وقد تقدم النقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله عنه إلى الحج في أواخر{[36216]} ذي القعدة أو بعد انقضائه من سنة تسع ، ووافاه العرب في ذي الحجة : الكفار وغيرهم ، فوقع{[36217]} إعلامهم ببراءة في أيام الحج وأماكنه ، فلو كان حصل في سنة عتاب اختلال في {[36218]}ذي القعدة{[36219]} بنسيء{[36220]} لكان ذو الحجة بحساب الكفار وهو المحرم بحساب الإسلام ، فكان يتأخر مجيء الكفار للحج عن مجيء المسلمين ، فثبت بهذا أيضاً أن حجه رضي الله عنه كان في ذي الحجة ، فحفظ الله أهل الإسلام من أن يقع في حجهم اختلال في سنة من السنين ، وما هي بأول نعمة عليهم - والله الموفق ؛ وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد المشهور بابن القاص{[36221]} من أكابر متقدمي أصحاب الشافعي رحمه الله في كتابه دلائل القبلة في باب معرفة عدد أيام السنة : فالسنة اثنا عشر شهراً بالأهلة ، وربما كان الشهر ثلاثين وربما كان تسعاً وعشرين ، فمبلغ السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثماني ساعات وأربعة أخماس ساعة ، وقالت الهند : السنة ثلاثمائة وخمسة{[36222]} وستون يوماً وست ساعات وخمس ساعة وجزء من أربعمائة جزء من ساعة ، وذلك من دخول الشمس برأس{[36223]} الحمل إلى أن تدخل فيه من قابل ، ففضل ما بين السنة الهلالية والسنة الشمسية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة ، فإذا زيدت عليها هذه الساعات والأيام استقام حسابه مع دوران الشمس ، وكانت العرب تزيده في الجاهلية ، وكان الذي أبدع لهم ذلك رجل من كنانة يقال له القلمس ، وذلك أنه يجمع هذه الزيادة فإذا تمت شهراً زاده في السنة وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهراً ، وسماه{[36224]} نسيئاً ، ويحج بهم تلك السنة في المحرم ، فأنزل الله تعالى { إنما النسيء زيادة في الكفر } فلما كانت السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وافق الحج في تلك السنة ذا الحجة لما أراد الله تعالى بإثبات الحج في تلك السنة ، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
" أيها الناس ! ألا إن السنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق الله السماوات والأرض { منها أربعة حرم ذلك الدين القيم } " يعنى به الحساب القيم ، فالحرم رجب جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، فسمي ذلك الحج الأقوم ، وقال الشاعر :وأبطل ذو العرش النسي وقلمسا *** وفاز رسول الله{[36225]} بالحج الأقوم - انتهى
والقلمس بفتح اللام وتشديد الميم ، فالنسيء في البيت متروك الهمز ليصح الوزن ، والأقوم منقول حركة الهمزة ، وقوله : إن علة النسيء التطبيق بين السنة الشمسية والقمرية{[36226]} - فيه نظر ، والظاهر أن علته ما ذكر في السير من اضطرارهم إلى القتال ، وأمر الاستدارة في كل من هذه الأقوال واضح الاستنارة ، وليس المراد بها مصادفة كل فصل من فصول السنة لموضعه من الحر والبرد ، ومصادفة اسم كل شهر لمسماه بحسب اشتقاقه حتى يكون رمضان في شدة الحر مثلاً وكذلك غيره وإن كان الواقع أن الأمر كان في هذه الحجة كذلك ، لما تقدم من أن غزوة تبوك كان ابتداؤها في شهر رجب ، وكان ذلك {[36227]}كما تقدم{[36228]} في شدة الحر وحين طابت الثمار ، وإنما المراد الأعظم بالاستدارة مصادفة اسم كل شهر لمسماه لا لمسمى{[36229]} شهر آخر لأجل الدوران بالنسيء بدليل أنه صلى الله عليه وسلم ما ذكر إلا لأجله ، فقال في بعض طرق حديث جابر الطويل رضي الله عنه : " إن النسيء زيادة في الكفر ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً " فانظر إلى تعقيبه بحصر الأشهر في الاثنى عشر نفياً لجعلهم إياها سنة النسيء ثلاثة عشر شهراً{[36230]} ، وقال : منها أربعة حرم ، وعينها وقال : أيّ شهر هذا ؟ فلما سكتوا قال : ذو الحجة شهر حرام{[36231]} ، كل هذا لبيان أن المراد بالاستدارة رجوع كل شهر عما غيره أهل الجاهلية إلى موضعه الذي وضعه الله به موافقاً اسمه لمسماه ، وجعلت أشهرنا هلالية مع المنع من النسيء لتحصل الاستدارة فيحصل بسببها كل عبادة تعبدنا بها من صوم وعيد وحج وغيره في كل فصل من فصول السنة بخلاف من شهوره بالحساب ، فإن عباداتهم{[36232]} خاصة بوقت من السنة لا تتعداه{[36233]} - والله الموافق له{[36234]} ، وقال القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره ، حدثنا ابن أبي عمرثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاووس قال ؛ الشهر الذي انتزعه الله من الشيطان المحرم .
والحاصل{[36235]} أنه لا شك في{[36236]} أن النسيء لم يكن قط إلا للمحرم لما تقدم ، وأن الحج لم يكن قط في جاهلية ولا إسلام إلا في شهر يسمى ذا الحجة لما قاله نقلة{[36237]} اللغة والحديث والأخبار ، قال ابن الأثير في النهاية ونشوان اليمني{[36238]} في شمس العلوم والقزاز{[36239]} في ديوانه وابن مكتوم{[36240]} في ترتيب العباب والمحكم : ذو الحجة بالكسر : شهر الحج ، زاد المحكم : سمي بذلك للحج ، وقال القزاز ؛ إن الفتح فيه أشهر ، وفي النهاية : يوم التروية هو الثامن من ذي الحجة ، سمى به لأنهم كانوا يرتوون{[36241]} فيه{[36242]} من الماء لما بعده ، أي يستقون{[36243]} ويسقون{[36244]} ؛ وقال المجد في القاموس : يوم عرفة التاسع من ذي الحجة ، وفي كتاب أسواق العرب لأبي{[36245]} المنذر هشام بن محمد الكلبي رواية أبي سعيد السكري{[36246]} أن عكاظ كانت من أعظم أسواق العرب . فإذا أهل أهلها هلال ذي الحجة ساروا بأجمعهم إلى ذي المجاز وهي قريب من عكاظ ، وعكاظ{[36247]} في أعلى نجد ، فأقاموا بها حتى يوم التروية ، و{[36248]} وافاهم بمكة حجاج العرب ورؤوسهم ممن أراد الحج بمن لم يكن شهد تلك الأسواق . وقال الأزرقي{[36249]} في تاريخ مكة : فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة ، ثم يخرجون يوم التروية في ذي المجاز إلى عرفة فيتروون ذلك اليوم{[36250]} من الماء بذي المجاز ، وإنما سمي يوم التروية لترويهم الماء بذي المجاز ، ينادي بعضهم بعضاً : ترووا من الماء ، إنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ ، ثم ذكر أنه لا يحضر ذلك إلا التجار ، قال : ومن لم يكن له تجارة فإنه يخرج من أهله متى أراد ، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية . وروى البيهقي في دلائل النبوة بسندة عن عروة وموسى بن عقبة - فرقهما - قالا : وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة من الجعرانة في ذي القعدة ، ثم أسند عن ابن إسحاق{[36251]} أنه قال : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة ، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم ، فكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة أو في الحجة ، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب يحج عليه ، وحج تلك السنة عتاب بن أسيد في سنة ثمان ، وحديث اعتماره صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة رواه الشيخان ومضى على ما كانت العرب من الطواف عراة ونحوه ؛ وذكره الواقدي عن مشايخ قالوا : وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس{[36252]} ليال خلون من ذي القعدة ، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة ، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنتي{[36253]} عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلاً فأحرم - فذكرعمرته ثم قال : واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة ، وخلف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين{[36254]} ، وأقام للناس الحج عتاب بن أسيد رضي الله عنه عن تلك السنة وهي سنة ثمان ، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مدتهم ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة ، قال الواقدي{[36255]} : فأقام بقية ذي القعدة وذا الحجة ، فلما رأى هلال المحرم بعث المصدقين - انتهى .
إذا تقرر هذا علم أن الحج لم يكن قط إلا في شهر يسمونه ذا الحجة ، وهو مما لا يدور في خَلَد ولا يقع في وهم فيه تردد ، ولا يحتاج إلى تطويل بذكره ولا إطناب في أمره ، وتارة يوافق اسمه مسماه وتارة لا يوافقه لأجل النسيء ، وعلم أيضاً أن حج عتاب بن أسيد كان في ذي الحجة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة إلى المدينة الشريفة ، أنه ما تأخر عن ذي الحجة إلا لنقل ، وأن حج أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع كان في ذي الحجة لذلك ولما تقدم{[36256]} من أن سفره له من المدينة الشريفة{[36257]} كان في آخر ذي القعدة أو أول ذي الحجة ولقولهم : إن الأربعة الأشهر{[36258]} التي ضربت للمشركين من يوم النحر و{[36259]} لقولهم : إن الأربعة الأشهر{[36260]} كان آخرها عاشر ربيع الآخر ، وعلم أن ذا الحجة تلك السنة لو كان وافق مسمى ذي القعدة لم يقع{[36261]} ذو الحجة سنة عشر التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم في موضعه الذي وضعه الله به إلا بأن تكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً بنسيء أو غيره ، وكل من الأمرين باطل ، أما الأول فلأن الله تعالى أبطل النسيء في تلك السنة فيما أبطله من أمور الجاهلية في هذه السورة ، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم بالمناداة بها كما مر ، وأما الثاني فهو أمر خارق للعادة لم يكن مثله من حين خلق الله السماوات والأرض ، والخارق مما تتوفر الدواعي [ على{[36262]} ] نقله ، ولا ناقل لهذا أصلاً فبطل ، وإذا بطل ثبت أن سنة عشر كانت اثني عشر شهراً ولا سيما بعد إنزال الله تعالى في ذلك ما أنزل في هذه السورة ، وإذا كان الأمر كذلك كان الشهر الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم في موضع الشهر الذي وقف فيه الصديق رضي الله عنه سواء بسواء{[36263]} ، وقد ثبت أن الزمان كان فيه قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، فثبت من غير مرية{[36264]} أن شهر الصديق رضي الله عنه كذلك كان ، وثبت أيضاً أن سنة عتاب ابن أسيد رضي الله عنه كذلك كانت بما قدمتُ من أنه لم يكن فيها نسيء لتوافق حج المسلمين والمشركين في سنة تسع .
فدل ذلك على أنها كانت اثنى عشر شهراً ، فكان ذو الحجة فيها في موضعه{[36265]} الذي وضعه الله به كما كانت سنة تسع ، بل ظاهر قوله أبي عبيد : فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه - كما مضى - أن الله حفظ زمن الإسلام كله عن نسيء ، وهو الذي اعتقده ، وقد لاح بذلك أن السبب في قول من قال : إن حج الصديق رضي الله عنه وافق ذا القعدة ، أنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الزمان قد استدار " أن الاستدارة لم تكن إلا في تلك السنة وليس ذلك مدلول هذا التركيب كما لا يخفي والله الموفق : ثم وجدت النقل الصريح في زوائد معجمي{[36266]} الطبراني : الأوسط والأصغر للحافظ نور{[36267]} الدين الهيثمي بمثل ما فهمته ، قال في تفسير براءة : حدثنا إبراهيم - يعني ابن هشام - البغوي ثنا{[36268]} الصلت بن مسعود الجحدري ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ثنا دواد بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعني عبد الله{[36269]} بن عمرو{[36270]} رضي الله عنهما قال : كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين ولا يصيبون الحج إلا في كل ست وعشرين سنة مرة ، وهو النسيء الذي ذكره الله عز وجل في كتابه ، فلما كان عام حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس وافق ذلك العام الحج{[36271]} فسماه الله الحج الأكبر ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " لم يروه عن عمر إلا داود تفرد به الصلت - انتهى . وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى ، ثم رأيت الهيثمي في مجمع الزوائد قال : رجاله ثقات ، فأكد ذلك الجزم بما فهمت من أنه حسن{[36272]} ، وإنما أطلت{[36273]} هذا بما قد لا يحتاج في إيضاحه إليه لكثرة جدال المجادلين المعاندين ومحال المماحلين الجامدين .