فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (37)

قوله : { إِنَّمَا النسيء زِيَادَةٌ فِي الكفر } قرأ نافع في رواية ورش عنه «النسيّ » بياء مشدّدة بدون همز . وقرأ الباقون بياء بعدها همزة . قال النحاس : ولم يرو أحد عن نافع هذه القراءة إلا ورش وحده ، وهو مشتق من نسأه ، وأنسأه : إذا أخره ، حكى ذلك الكسائي . قال الجوهري : النسيء فعيل بمعنى مفعول من قولك : نسأت الشيء فهو منسوء : إذا أخرته ، ثم تحوّل منسوء إلى نسيء كما تحوّل مقتول إلى قتيل . قال ابن جرير : في النسيء بالهمزة معنى الزيادة يقال : نسأ ينسأ : إذا زاد ، قال : ولا يكون بترك الهمزة إلا من النسيان ، كما قال تعالى : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } ، وردّ على نافع قراءته . وكانت العرب تحرّم القتال في الأشهر الحرم المذكورة ، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرّموا غيرها . فإذا قاتلوا في المحرّم ، حرّموا بدله شهر صفر ، وهكذا في غيره . وكان الذي يحملهم على هذا : أن كثيراً منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة على بعضهم البعض ، ونهب ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه ، ويقع بينهم بسبب ذلك القتال ، وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضرّ بهم تواليها وتشتدّ حاجتهم وتعظم فاقتهم . فيحللون بعضها ويحرّمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم ، فهذا هو معنى النسيء الذي كانوا يفعلونه . وقد وقع الخلاف في أوّل من فعل ذلك ، فقيل : هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عتيد . ويلقب القلمس ، وإليه يشير الكميت بقوله :

ألسنا الناسئين على معدّ *** شهور الحلّ نجعلها حراما

وفيه يقول قائلهم :

ومنا ناسىء الشهر القلمس *** . . .

وقيل : هو عمرو بن لحيّ ، وقيل : هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة ، وسمى الله سبحانه النسيء زيادة في الكفر ؛ لأنه نوع من أنواع كفرهم ، ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر . قوله : { يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ } قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر «يضلّ » على البناء للمعلوم . وقرأ الكوفيون على البناء للمجهول .

ومعنى القراءة الأولى : أن الكفار يضلون بما يفعلونه من النسيء ، ومعنى القراءة الثانية ، أن الذي سنّ لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة ، وقد اختار القراءة الأولى أبو حاتم ، واختار القراءة الثانية أبو عبيد ، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب { يضل } بضم الياء وكسر الضاد على أن فاعله الموصول ، ومفعوله محذوف . ويجوز أن يكون فاعله هو الله سبحانه ، ومفعوله الموصول . وقرئ بفتح الياء والضاد من ضلّ يضلّ . وقرئ «نضلّ » بالنون .

قوله : { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا } الضمير راجع إلى النسيء : أي يحلون النسيء عاماً ويحرّمونه عاماً ، أو إلى الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه ، أي يحلونه عاماً بإبداله بشهر آخر من شهور الحل ، [ يحرّمونه ] عاماً : أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال ، بل يبقونه على حرمته . قوله : { لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } أي : لكي يواطئوا ، والمواطأة : الموافقة ، يقال : تواطأ القوم على كذا : أي توافقوا عليه واجتمعوا . والمعنى : إنهم لم يحلوا شهراً إلا حرّموا شهراً لتبقى الأشهر الحرم أربعة ، قال قطرب : معناه عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم ، وقرنوه بالمحرّم في التحريم . وكذا قال الطبري . قوله : { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله } أي : من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها { زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم } أي : زين لهم الشيطان الأعمال السيئة التي يعملونها ، ومن جملتها النسيء . وقرئ على البناء للفاعل . { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } أي : المصرّين على كفرهم المستمرين عليه فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب ، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده .

/خ37