السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (37)

{ إنما النسيء } أي : التأخير لحرمة شهر إلى آخر كما كانت الجاهلية تفعل كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرّموا مكانه شهراً آخر ورفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرّد العدد فكانوا يؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمون صفر ويستحلون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع وهكذا شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها وكانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي القعدة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذا باقي شهور السنة فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة في ذي القعدة قبل حجة الوداع بسنة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافق حجه في شهر ذي الحجة وهو شهر الحج المشروع فوقف بعرفة في اليوم التاسع وخطب بالناس في اليوم العاشر وأعلمهم أنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض الحديث المتقدّم وأمرهم بالمحافظة على ذلك لئلا يتبدل في مستأنف الأيام وقد رجع المحرّم إلى موضعه الذي وضعه الله تعالى وذلك بعد دهر طويل .

وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته لنا : «أيّ شهر هذا » قلنا الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : «أليس ذا الحجة » قلنا : بلى قال : «أيّ بلد هذا » قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : «أليس البلد الحرام » قلنا : بلى قال : «فأي يوم هذا » قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : «أليس يوم النحر » قلنا : بلى قال : ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعلّ بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ألا هل بلغت ألا هل بلغت ألا هل بلغت ) قلنا : نعم قال : «اللهم اشهد » واختلفوا في أوّل من نسأ النسيء فقال ابن عباس : بنو مالك بن كنانة وكان يليه أبو ثمامة وجنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يقوم على جمل بالموسم فينادي إنّ آلهتكم قد أحلت لكم المحرّم فأحلوه ثم ينادي في قابل إنّ آلهتكم قد حرمت عليكم المحرّم فحرّموه وقال الكلبي : أوّل من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة ، وقيل : أول من فعل ذلك عمرو بن لحي وهو أوّل من سيب السوائب وقال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ( رأيت عمرو بن لحيّ يجرّ قصبه في النار ) . وقوله تعالى : { زيادة في الكفر } معناه أنه تعالى حكى عنهم أنواعاً كثيرة من الكفر فلما ضموا تحريم ما أحل الله تعالى وتحليل ما حرّم الله تعالى وهو كفر كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المتقدّمة من الكفر زيادة في الكفر لأنّ الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً فزادتهم رجساً إلى رجسهم كما أنّ المؤمن كلما أحدث طاعة ازدادا إيماناً فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون . وقرأ ورش النسيّ بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها فبقيت ياء مضمومة مشدّدة والباقون بهمزة مضمومة هذا في الوصل وأمّا الوقف فورش يقف بياء مشدّدة ساكنة وحمزة كذلك وله فيه الروم والاشمام والباقون بهمزة ساكنة { يضل به } أي : بهذا التأخير الذي هو النسيء { الذين كفروا } قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء وفتح الضاد لقوله تعالى : { زين لهم سوء أعمالهم } والباقون بفتح الياء وكسر الضاد على معنى أنهم هم الضالون لقوله تعالى : { يحلونه } أي : يحلون النسيء من الأشهر الحرم { عاماً } ويحرّمون مكانه شهراً آخر { ويحرّمونه عاماً } فيتركونه على حرمته وإنما فعلوا ذلك { ليواطؤوا } أي : ليوافقوا { عدّة } أي : عدد { ما حرّم الله } من الأشهر فلا يزيدون على تحريم أربعة أشهر ولا ينقصون عنها ولا ينظرون إلى أعيانها { فيحلوا ما حرّم الله } بمواطأة العدة من غير مراعاة الوقت الذي يحلون إليه الأشهر الحرم { زين لهم سوء أعمالهم } قال ابن عباس : زين لهم الشيطان هذا العمل حتى حسبوا هذا القبيح حسناً { والله لا يهدي القوم الكافرين } أي : هداية موصلة إلى الاهتداء لما سبق لهم في الأزل أنهم من أهل النار .