البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (37)

{ إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين } : يقال : نسأه وأنسأه إذا أخَّره ، حكاه الكسائي .

قال الجوهري وأبو حاتم : النسيء فعيل بمعنى مفعول ، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته ، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتول إلى قتيل .

ورجل ناسىء ، وقوم نسأة ، مثل فاسق وفسقة انتهى .

وقيل : النسيء مصدر من أنسأ ، كالنذير من أنذر ، والنكير من أنكر ، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر .

وقال الطبري : النسيء بالهمز معناه الزيادة انتهى .

فإذا قلت : أنسأ الله ؛ الله أجله بمعنى أخَّر ، لزم من ذلك الزيادة في الأجل ، فليس النسيء مرادفاً للزيادة ، بل قد يكون منفرداً عنها في بعض المواضع .

وإذا كان النسيء مصدراً كان الإخبار عنه بمصدر واضحاً ، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي : إن نسأ النسيء ، أو في زيادة أي : ذو زيادة .

وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله .

ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول ، لأنه يكون المعنى : إنما المؤخر زيادة ، والمؤخر الشهر ، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر .

وقرأ الجمهور : النسيء مهموز على وزن فعيل .

وقرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني : النسيّ بتشديد الياء من غير همز ، وروى ذلك عن ابن كثير سهل الهمزة بإبدالها ياء ، وأدغم الياء فيها ، كما فعلوا في نبىء وخطيئة فقالوا : نبي وخطية بالإبدال والإدغام .

وفي كتاب اللوامح قرأ جعفر بن محمد والزهري .

وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل : النسء بإسكان السين .

والأشهب : النسي بالياء من غير همز مثل الندى ، وقرأ مجاهد : النسوءعلى وزن فعول بفتح الفاء ، وهو التأخير .

ورويت هذه عن طلحة والسلمي .

وقول أبي وائل : إنّ النسيء رجل من بني كنانة قول ضعيف .

وقول الشاعر :

أنسنا الناسئين على معدّ ***

شهور الحل نجعلها حراما

وقال آخر :

نسؤ الشهور بها وكانوا أهلها ***

من قبلكم والعز لم يتحول

وأخبر أنّ النسيء زيادة في الكفر أي : جاءت مع كفرهم بالله ، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفراً .

قال تعالى : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } كما أنّ المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيماناً .

قال تعالى : { فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون } وأعاد الضمير في به على النسيء ، لا على لفظ زيادة .

وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص : يضل مبنياً للمفعول ، وهو مناسب لقوله : زين ، وباقي السبعة مبنياً للفاعل .

وابن مسعود في رواية ، والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب : يضل أي الله ، أي : يضل به الذين كفروا اتباعهم .

ورويت هذه القراءة عن : الحسن ، والأعمش ، وأبي عمرو ، وأبي رجاء .

وقرأ أبو رجاء : يضل بفتحتين من ضللت بكسر اللام ، أضلَّ بفتح الضاد منقولاً ، فتحها من فتحة اللام إذ الأصل أضلل .

وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن : نُضل بالنون المضمومة وكسر الضاد ، أي : نضل نحن .

ومعنى تحريمهم عاماً وتحليلهم عاماً : لا يرادان ذلك ، كان مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام .

وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم صفراً بدلاً من المحرم ، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة ، فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقيقته وأحل صفر ومشت الشهور مستقيمة ، وإنَّ هذه كانت حال القوم .

وتقدم لنا أنّ الذي انتدب أولاً للنسيء القلمس .

وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة .

وعن ابن عباس : إنّ أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ ، وهو أول من سيب السوائب ، وغيَّر دين إبراهيم .

وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة .

والمواطأة : الموافقة ، أي ليوافقوا العدة التي حرم الله وهي الأربعة ولا يخالفونها ، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أصل الواجبين .

والواجبان هما العدد الذي هو أربعة في أشخاص أشهر معلومة وهي : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم كما تقدم .

ويقال : تواطؤا على كذا إذا اجتمعوا عليه ، كان كل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه .

ومنه الإيطاء في الشعر ، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد ، وهو عيب إنْ تقارب .

واللام في ليواطئوا متعلقة بقوله : ويحرمونه ، وذلك على طريق الأعمال .

ومَنن قال : إنه متعلق بيحلونه ويحرمونه معاً ، فإنه يريد من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب .

قال ابن عطية : ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد ، فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها ، بمثابة أن يفطر رمضان ، ويصوم شهراً من السنة بغير مرض أو سفر انتهى .

وقرأ الأعمش وأبو جعفر : ليواطيوا بالياء المضمومة لما أبدل من الهمزة ياء عامل البدل معاملة المبدل منه ، والأصح ضم الطاء وحذف الياء لأنه أخلص الهمزة ياء خالصة عند التخفيف ، فكنت لاستثقال الضمة عليها ، وذهبت لالتقاء الساكنين ، وبدلت كسرة الطاء ضمة لأجل الواو التي هي ضمير الجماعة كما قيل في رضيوا رضوا .

وجاء عن الزهري : ليواطيوا بتشديد الياء ، هكذا الترجمة عنه .

قال صاحب اللوامح : فإن لم يرد به شدة بيان الياء وتخليصها من الهمز دون التضعيف ، فلا أعرف وجهه انتهى .

فيحلوا ما حرم الله أي بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله تعالى من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها .

وقرأ الجمهور : زين لهم سوء أعمالهم مبنياً للمفعول .

والأولى أن يكون المنسوب إليه التزيين الشيطان ، لأن ما أخبر به عنهم سيق في المبالغة في معرض الذم .

وقرأ زيد بن علي : زيِّن لهم سوء بفتح الزاي والياء والهمزة ، والأولى أن يكون زين لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم .

قال الزمخشري : خذلهم الله تعالى فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة .

والله لا يهدي أي : لا يلطف بهم ، بل يخذلهم انتهى .

وفيه دسيسة الاعتزال .

وقال أبو علي : لا يهديهم إلى طريق الجنة والثواب .

وقال الأصم : لا يحكم لهم بالهداية .

وقيل : لا يفعل بهم خيراً ، والعرب تسمي كل خير هدى ، وكل شر ضلالة انتهى .

وهذا إخبار عمن سبق في علمه أنهم لا يهتدون .