قوله تعالى : { الذين كفروا } . يعني مشركي العرب ، قال الكلبي : يعني اليهود . والكفر هو الجحود وأصله من الستر ومنه سمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء بظلمته وسمي الزارع كافراً لأنه يستر الحب بالتراب ، فالكافر يستر الحق بجحوده . والكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار ، وكفر جحود ، وكفر عناد ، وكفر نفاق . فكفر الإنكار هو : أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به وكفر به ، وكفر الجحود هو : أن يعرف الله تعالى بقلبه ولا يعترف بلسانه ككفر إبليس وكفر اليهود . قال الله تعالى : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) وكفر العناد هو : أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول :
ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وأما كفر النفاق فهو : أن يقر بلسانه ولا يعتقد بالقلب ، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له .
قوله تعالى : { سواء عليهم } . أي : متساو لديهم .
قوله تعالى : { أأنذرتهم } . خوفتهم وحذرتهم ، والإنذار إعلام مع تخويف ، المنذر معلم وليس كل معلم منذراً ، وحقق ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائي الهمزتين في ( أأنذرتهم ) وكذلك كل همزتين تقعان في أول الكلمة والآخرون يلينون الثانية .
قوله تعالى : { أم } . حرف عطف على الاستفهام .
قوله تعالى : { لم } . حرف جزم لا تلي إلا الفعل لأن الجزم يختص بالأفعال .
قوله تعالى : { تنذرهم لا يؤمنون } . وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } .
فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا ، ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم ، المعاندين للرسول فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يخبر تعالى أن الذين كفروا ، أي : اتصفوا بالكفر ، وانصبغوا به ، وصار وصفا لهم لازما ، لا يردعهم عنه رادع ، ولا ينجع فيهم وعظ ، إنهم مستمرون على كفرهم ، فسواء عليهم أأنذرتهم ، أم لم تنذرهم لا يؤمنون .
وحقيقة الكفر : هو الجحود لما جاء به الرسول ، أو جحد بعضه ، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة ، وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم ، وأنك لا تأس عليهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات .
فأما الصورة الثانية فهي صورة الكافرين . وهي تمثل مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين :
( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم ) . .
وهنا نجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة الكافرين . . فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين ، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين . إن النوافذ المفتوحة في أرواح المتقين ، والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود ، وبالظاهر والباطن والغيب والحاضر . . إن هذه النوافذ المفتحة كلها هناك ، مغلقة كلها هنا . وإن الوشائج الموصولة كلها هناك ، مقطوعة كلها هنا :
{ إن الذين كفروا } لما ذكر خاصة عباده ، وخلاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح ، عقبهم بأضدادهم العتاة المردة ، الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر ، ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى ؛ { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } لتباينهما في الغرض ، فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه والأخرى مسوقة لشرح تمردهم ، وانهماكهم في الضلال ، و( إن ) من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء وإعطاء معانيه ، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين . ولذلك أعملت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذانا بأنه فرع في العمل دخيل فيه .
وقال الكوفيون : الخبر قبل دخولها كان مرفوعا بالخبرية ، وهي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف . وأجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان ، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف . وفائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها ، ولذلك يتلقى بها القسم ويصدر بها الأجوبة ، وتذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى : { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض } ، { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } قال المبرد ( قولك عبد الله قائم ، إخبار عن قيامه ، وإن عبد الله قائم ، جواب سائل عن قيامه ، وإن عبد الله لقائم ، جواب منكر لقيامه ) . وتعريف الموصول : إما للعهد ، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب ، وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، وأحبار اليهود . أو للجنس ، متناولا من صمم على الكفر ، وغيرهم فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه . والكفر لغة : ستر النعمة ، وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ، ومنه قيل للزارع ولليل كافر ، ولكمام الثمرة كافور . وفي الشرع : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به ، وإنما عد لبس الغيار وشد الزنار ونحوهما كفرا لأنها تدل على التكذيب ، فإن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجترئ عليها ظاهرا لا أنها كفر في أنفسها . واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه ، وأجيب بأنه مقتضى التعلق وحدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم .
{ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } خبر إن وسواء اسم بمعنى الاستواء ، نعت به كما نعت بالمصادر قال الله تعالى : { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } رفع بأنه خبر إن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه ، أو بأنه خبر لما بعده بمعنى : إنذارك وعدمه سيان عليهم ، والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له ، أما لو أطلق وأريد به اللفظ ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة ، والإسناد إليه كقوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا } وقوله : { يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه .
وإنما عدل ههنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة ، وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده ، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء ، كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة .
والإنذار : التخويف أريد به التخويف من عذاب الله ، وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس ، من حيث إن دفع الضر أهم من جلب النفع ، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى ، وقرئ { أأنذرتهم } بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين ، وقلبها ألفا وهو لحن لأن المتحركة لا تقلب ، ولأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده ، وبتوسيط ألف بينهما محققتين ، وبتوسيطها والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية ، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها .
{ لا يؤمنون } جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة . أو بدل عنه . أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم .
والآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان ، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا . وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان . والحق أن التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلا من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضا سيما الامتثال ، لكنه غير واقع للاستقراء ، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره ، وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجح إلزام الحجة ، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ ، ولذلك قال { سواء عليهم } ولم يقل سواء عليك . كما قال لعبدة الأصنام { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات .