البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

{ إن الذين كفروا سواء عليهم } ، إن : حرف توكيد يتشبث بالجملة المتضمنة الإسناد الخبري ، فينصب المسند إليه ، ويرتفع المسند وجوباً عند الجمهور ، ولها ولأخواتها باب معقود في النحو .

وتأتي أيضاً حرف جواب بمعنى نعم خلافاً لمن منع ذلك .

الكفر : الستر ، ولهذا قيل : كافر للبحر ، ومغيب الشمس ، والزارع ، والدافن ، والليل ، والمتكفر ، والمتسلح .

فبينها كلها قدر مشترك وهو الستر ، سواء اسم بمعنى استواء مصدر استوى ، ووصف به بمعنى مستو ، فتحمل الضمير .

قالوا : مررت برجل سواء ، والعدم قالوا : أصله العدل ، قال زهير : يسوي بينها فيها السواء .

ولإجرائه مجرى المصدر لا يثني ، قالوا : هما سواء استغنوا بتثنية سي بمعنى سواء ، كقي بمعنى قواء ، وقالوا : هما سيان .

وحكى أبو زيد تثنيته عن بعض العرب .

قالوا : هذان سواآن ، ولذلك لا تجمع أيضاً ، قال :

وليل يقول الناس من ظلماته *** سواء صحيحات العيون وعورها

وهمزته منقلبة عن ياء ، فهو من باب طويت .

وقال صاحب اللوامح : قرأ الجحدري سواء بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز ، فيجوز أنه أخلص الواو ، ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين ، وهو أن يكون بين الهمزة والواو .

وفي كلا الوجهين لا بد من دخول النقص فيما قبل الهمزة الملينة من المد ، انتهى .

فعلى هذا يكون سواء ليس لامه ياء بل واواً ، فيكون من باب قواء .

وعن الخليل : سوء عليهم بضم السين مع واو بعدها مكان الألف ، مثل دائرة السوء على قراءة من ضم السين ، وفي ذلك عدول عن معنى المساواة إلى معنى القبح والسب ، ولا يكون على هذه القراءة له تعلق إعراب بالجملة بعدها بل يبقى .

{ أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } إخبار بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك وعدم إنذارك ، وأما سواء الواقع في الاستثناء في قولهم قاموا سواك بمعنى قاموا غيرك ، فهو موافق لهذا في اللفظ ، مخالف في المعنى ، فهو من باب المشترك ، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء .

الهمزة للنداء ، وزيد وللاستفهام الصرف ، وذلك ممن يجهل النسبة فيسأل عنها ، وقد يصحب الهمزة التقرير : { أأنت قلت للناس } ؟ والتحقيق ، ألستم خير من ركب المطايا .

والتسوية { سواء عليهم أأنذرتم } ، والتوبيخ { أذهبتم طيباتكم } والإنكار أن يدنيه لمن قال جاء زيد ، وتعاقب حرف القسم الله لأفعلن .

الإنذار : الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف ، وإن لم تسع سمي إعلاماً وإشعاراً أو إخباراً ، ويتعدى إلى اثنين : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } { فقل أنذرتكم صاعقة } والهمزة فيه للتعدية ، يقال : نذر القوم إذا علموا بالعدو .

وأم حرف عطف ، فإذا عادل الهمزة وجاء بعده مفرداً أو جملة في معنى المفرد سميت أم متصلة ، وإذا انخرم هذان الشرطان أو أحدهما سميت منفصلة ، وتقرير هذا في النحو ، ولا تزاد خلافاً لأبي زيد .

لم حرف نفي معناه النفي وهو مما يختص بالمضارع ، اللفظ الماضي معنى ، فعمل فيه ما يخصه ، وهو الجزم ، وله أحكام ذكرت في النحو .

مناسبة اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر ، وهو أنه لما ذكر صفة من الكتاب له هدى وهم المتقون الجامعون للأوصاف المؤدية إلى الفور ، ذكر صفة ضدهم وهم الكفار المحتوم لهم بالوفاة على الكفر ، وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم ، ولذلك لم يدخل في قصة المتقين ، لأن الحديث إنما جاء فيهم بحكم الانجرار ، إذ الحديث إنما هو عن الكتاب ثم أنجز ذكرهم في الإخبار عن الكتاب ، وعلى تقدير إعراب الذين يؤمنون ، الأول والثاني مبتدأ ، فإنما هو في المعنى من تمام صفة المتقين الذين كفروا ، يحتمل أن يكون للجنس ملحوظاً فيه قيد ، وهو أن يقضي عليه بالكفر والوفاة عليه ، وأن يكون لمعينين كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما .

وسواء وما بعده يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون لا موضع له من الإعراب ، ويكون جملة اعتراض من مبتدأ وخبر ، بجعل سواء المبتدأ والجملة بعده الخبر أو العكس ، والخبر قوله : لا يؤمنون ، ويكون قد دخلت جملة الاعتراض تأكيداً لمضمون الجملة ، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره .

والوجه الثاني : أن يكون له موضع من الإعراب ، وهو أن يكون في موضع خبر إن ، فيحتمل لا يؤمنون أن يكون له موضع من الإعراب ، إما خبر بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون ، وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال وهو بعيد ، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب فتكون جملة تفسيرية لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه ، كقوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة } أو يكون جملة دعائية وهو بعيد ، وإذا كان لقوله تعالى : { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } موضع من الإعراب فيحتمل أن يكون سواء خبر إن ، والجملة في موضع رفع على الفاعلية ، وقد اعتمد بكونه خبر الذين ، والمعنى إن الذين كفروا مستو إنذارهم وعدمه .

وفي كون الجملة تقع فاعلة خلاف مذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسماً أو ما هو في تقديره ، ومذهب هشام وثعلب وجماعة من الكوفيين جواز كون الجملة تكون فاعلة ، وأجازوا تعجبني يقوم زيد ، وظهر لي أقام زيد أم عمرو ، وأي قيام أحدهما ، ومذهب الفراء وجماعة : أنه إن كانت الجملة معمولة لفعل من أفعال القلوب وعلق عنها ، جاز أن تقع في موضع الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله وإلا فلا ، ونسب هذا لسيبويه .

قال أصحابنا : والصحيح المنع مطلقاً وتقرير هذا في المبسوطات من كتب النحو .

ويحتمل أن يكون قوله : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } مبتدأ وخبراً على التقديرين اللذين ذكرناهما إذا كانت جملة اعتراض ، وتكون في موضع خبر إن ، والتقديران المذكوران عن أبي علي الفارسي وغيره .

وإذا جعلنا سواء المبتدأ والجملة الخبر ، فلا يحتاج إلى رابط لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل ، وأكثر ما جاء سواء بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بأم { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها ، { اصبروا أو لا تصبروا ، سواء عليكم } أي أصبرتم أم لم تصبروا ، وتأتي بعده الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام ، نحو : سواء على أي الرجال ضربت ، قال زهير :

سواء عليه أي حين أتيته *** أساعة نحس تتقي أم بأسعد

وقد جاء بعده ما عري عن الاستفهام ، وهو الأصل ، قال :

سواء صحيحات العيون وعورها***

وأخبر عن الجملة بأن جعلت فاعلاً بسواء أو مبتدأة ، وإن لم تكن مصدره بحرف مصدري حملاً على المعنى وكلام العرب منه ما طابق فيه اللفظ المعنى ، نحو : قام زيد ، وزيد قائم ، وهو أكثر كلام العرب ، ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى ، نحو : علمت أقام زيد أم قعد ، لا يجوز تقديم الجملة على علمت ، وإن كان ليس ما بعد علمت استفهاماً ، بل الهمزة فيه للتسوية .

ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية نحو :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

إذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه ، لكن لوحظ المعنى ، وهو المصدر ، فصحت الإضافة .

قال ابن عطية : { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً سواء على أقمت أم قعدت أم ذهبت ؟ وإذا قلت مستفهماً أخرج زيد أم قام ؟ فقد استوى الأمران عندك ، هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام ، وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عممتهما التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام ، وكل استفهام تسوية ، وإن لم يكن كل تسوية استفهاماً ، انتهى كلامه .

وهو حسن ، إلا أن في أوله مناقشة ، وهو قوله : { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وليس كذلك لأن هذا الذي صورته صورة الاستفهام ليس معناه الخبر لأنه مقدر بالمفرد إما مبتدأ وخبره سواء أو العكس ، أو فاعل سواء لكون سواء وحده خبراً لأن ، وعلى هذه التقادير كلها ليس معناه معنى الخبر وإنما سواء ، وما بعده إذا كان خبراً أو مبتدأ معناه الخبر .

ولغة تميم تخفيف الهمزتين في نحو أأنذرتهم ، وبه قرأ الكوفيون ، وابن ذكوان ، وهو الأصل .

وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلباً للتخفيف ، فقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وهشام : بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، إلا أن أبا عمرو ، وقالون ، وإسماعيل بن جعفر ، عن نافع ، وهشام ، يدخلون بينهما ألفاً ، وابن كثير لا يدخل .

وروي تحقيقاً عن هشام وإدخال ألف بينهما ، وهي قراءة ابن عباس ، وابن أبي إسحاق .

وروي عن ورش ، كابن كثير ، وكقالون إبدال الهمزة الثانية ألفاً فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين ، وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري ، وزعم أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين : أحدهما : الجمع بين ساكنين على غير حده .

الثاني : إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفاً ، لأن ذلك هو طريق الهمزة الساكنة ، وما قاله هو مذهب البصريين ، وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون .

وقراءة ورش صحيحة النقل لا تدفع باختيار المذاهب ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة القرآن .

وقرأ الزهري ، وابن محيصن : أنذرتهم بهمزة واحدة ، حذف الهمزة الأولى لدلالة المعنى عليها ، ولأجل ثبوت ما عاد لها ، وهو أم ، وقرأ أبي أيضا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم الساكنة قبلها .

والمفعول الثاني لأنذر محذوف لدلالة المعنى عليه ، التقدير أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه ؟ وفائدة الإنذار مع تساويه مع العدم أنه قاطع لحجتهم ، وأنهم قد دعوا فلم يؤمنوا ، ولئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت ، وأن فيه تكثير الأجر بمعاناة من لا قبول له للإيمان ومقاساته ، وإن في ذلك عموم إنذاره لأنه أرسل للخلق كافة .

وهل قوله : لا يؤمنون خبر عنهم أو حكم عليهم أو ذم لهم أو دعاء عليهم ؟ أقوال .

7

/خ20