الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

قوله( {[673]} ) : ( إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمُ )[ الآية 5 ] .

هذه الآية( {[674]} ) نزلت( {[675]} ) في قوم سبق في علم الله فيهم أنهم لا يؤمنون ، فأعلم الله( {[676]} ) نبيه صلى الله عليه وسلم أن الإنذار لا ينفعهم لما سبق لهم في علمه ، وَثَمَّ كفار أُخَر نفعهم الإنذار فآمنوا لما سبق لهم في علم الله سبحانه من الإيمان به( {[677]} ) ، فالآية عامة في ظاهر اللفظ يراد به الخصوص ، فهي في من تقدم له في علم الله أنه لا يؤمن خاصة ، ومثله ( وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ )( {[678]} ) .

وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إيمان جميع الخلق ، فأعلمه الله عز وجل في هذه( {[679]} ) الآية( {[680]} ) أن من سبق له في علم الله [ سبحانه الكفر والثبات عليه ]( {[681]} ) إلى الموت لا يؤمن ولا ينفعه الإنذار ، وأن الإنذار وتركه سواء عليه . وهذا مما يدل على ثبات القدر بخلاف ما تقوله المعتزلة . وقيل : نزل ذلك في قادة( {[682]} ) الأحزاب ، وهم الذين نزل فيهم ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ/ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً ) الآية( {[683]} ) . وهم الذين قتلوا يوم بدر ، قال( {[684]} ) ذلك الربيع بن أنس( {[685]} ) .

وقال ابن عباس : " نزلت في اليهود الذين جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكباراً وحسداً مع معرفتهم أنه نبي صلى الله عليه وسلم " ( {[686]} ) .

وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : " حيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف( {[687]} ) مع أصحابهما من رؤساء اليهود الذين دخلوا على النبي [ عليه السلام ]( {[688]} ) وسألوه عن ( أَلَمِ ذَلِكَ الكِتَابُ ) " ( {[689]} ) .

وقيل : هي عامة في كل كافر تقدم له في علم الله أنه لا( {[690]} ) يؤمن .

وأصل الكفر التغطية . ومنه قيل لِلّيل : كافر ، لأنه يستر بظلمته ما فيه( {[691]} ) .

ويقال للزراع : كفّار( {[692]} ) ، لأنهم يسترون( {[693]} ) الحب في الأرض ، ومنه قوله ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ )( {[694]} )( {[695]} ) . ومنه قولهم : " كَفّارَةُ اليمين " . لأنها تستر( {[696]} ) الإثم عن الحالف ، ومنه سمي الكافر لأنه( {[697]} ) يستر( {[698]} ) الإيمان بجحوده( {[699]} ) .

ومعنى لفظ الاستفهام في/ ( ءَآنذَرْتَهُمُ ) للتسوية( {[700]} ) ، وهو في المعنى خبر ، لكن التسوية تجري في اللفظ مجرى لفظ الاستفهام( {[701]} ) ، والمعنى [ على الخبر ]( {[702]} ) ، تقول : " سواء عليَّ أقمت أم قعدت . وإنما صار لفظ التسوية مثل لفظ الاستفهام للمضارعة التي بينهما ، وذلك أنك إذا قلت : " قد علمت أزيد( {[703]} ) في الدار أم عمرو " ، فقد سويت علم المخاطب فيهما( {[704]} ) ، فلا يدري أيهما في الدار ، وقد اسْتَوَى علمك في ذلك ، وتدري أحدهما في الدار ولا تدريه بعينه . فهذا تسوية( {[705]} ) .

وتقول في الاستفهام : " أزيد في الدار أم عرو ؟ " ، فأنت لا تدري أيهما في الدار ، وقد استوى علمك في ذلك وتدري( {[706]} ) أن أحدهما( {[707]} ) في الدار ، ولا تدري عينه منهما ، فقد صار الاستفهام كالتسوية في عواقب الأمور ، غير أن التسوية إبهام على المخاطب وعلم يقين عند المتكلم ، والاستفهام إبهام على المتكلم . ويجوز أن يكون( {[708]} ) المخاطب مثل المتكلم في ذلك ، ويجوز أن يكون عنده يقين ما سئل عنه . فاعرف الفرق بينهما .

وقوله : ( ءَآنْذَرْتَهُمُ ) ، فيه عشرة أوجه .

- الأول( {[709]} ) : تحقيق( {[710]} ) الهمزة الأولى ، وتخفيف الثانية بين الهمزة والألف . وهي لغة قريش وكنانة ، وهي قراءة ورش( {[711]} ) عن نافع( {[712]} ) وابن كثير( {[713]} ) .

- والثاني : تحقيق الأولى وبدل الثانية بألف ، وهو مروي عن ورش وفيه ضعف( {[714]} ) .

- والثالثة : تحقيق الهمزيين وهي قراءة أهل الكوفة( {[715]} ) ، وابن ذكوان( {[716]} ) عن ابن عامر( {[717]} ) .

- والرابع : حذف الهمزة الأولى وتحقيق الثانية . وهو مروي عن الزهري ، وهي قراءة ابن( {[718]} ) محيصن( {[719]} ) ، وذلك لأن " أم " تدل( {[720]} ) على الألف المحذوفة( {[721]} ) .

- والخامس : تحقيقهما جميعاً وإدخال ألف( {[722]} ) بينهما . وبذلك( {[723]} ) قرأ( {[724]} ) ابن أبي إسحاق( {[725]} ) .

- والسادس( {[726]} ) : تحقيق الأولى( {[727]} ) ، وتخفيف الثانية بين الهمزة والألف ، وإدخال الف بينهما . وبذلك قرأ أبو عمرو( {[728]} ) ، وقالون( {[729]} ) ، وإسماعيل بن جعفر( {[730]} ) عن نافع ، وهشام بن عمار( {[731]} ) عن ابن عامر .

- والسابع : ذكره أبو حاتم( {[732]} ) قال : " يجوز أن تدخل بينهما أيضاً ، وتحذف الثانية " ، فيصير لفظ هذا الوجه كلفظ الوجه الثاني المذكور .

- والثامن : ذكره الأخفش قال : " يجوز أن تخفف( {[733]} ) الأولى منهما وتحقق( {[734]} ) الثانية " ، ولم يقرأ بهذا أحد ، وهو بعيد ضعيف لأن الاستثقال( {[735]} ) لا يقع في أول الكلام ، ولأن الهمزة المخففة بين بين ، لا يبتدأ بها إلا أن تريد أن تصل الهمزة بما قبلها وتلقي حركتها على الميم الساكنة قبلها ، فهو قياس ، وليس عليه عمل( {[736]} ) .

- والتاسع : ذكره أبو حاتم( {[737]} ) أيضاً قال : " يجوز أن تخفف الهمزتين " . وهو بعيد ، ولم يقرأ به أحد ، وله قياس إذا وصلت كلامك ، فتلقي/ حركة( {[738]} ) الأولى على الميم الساكنة قبلها ، وتخفف( {[739]} ) الثانية بين بين ، وهو بعيد جداً( {[740]} ) .

- والعاشر : ذكره الأخفش أيضاً ؛ قال : " يجوز أن تبدل من الأولى هاء ، فتقول : " هانْذَرْتَهُمْ " ( {[741]} ) . ولم يقرأ به أحد ومخالف للخط ، وقياسه في العربية جيد . ويجوز مع بدل الأولى " بهاء " أن تحقق الثانية وأن تخففها ، وتدخل بين الهمزة والهاء ألفاً ، وان تحقق الثانية وتدخل بينهما ألفاً ، فتبلغ الوجوه إلى أربعة عشر وجهاً( {[742]} ) .


[673]:- في ع2: وقوله.
[674]:- في ع1، ق: الآيات.
[675]:- في ع1، ق، ح، ع3: نزلن وهو خطأ.
[676]:- سقط لفظ الجلالة "الله" من ع2.
[677]:- انظر: جامع البيان 1/253، والمحرر الوجيز 1/105.
[678]:- الكافرون آية 3.
[679]:- في ع2، ق: بهذه.
[680]:- هذا التصويب من ح،ع3: وفي غيرهما: الآيات.
[681]:- في ع1، ق: الكفر والثبات عليه سبحانه.
[682]:- في ع3: قتادة. وهو تحريف.
[683]:- إبراهيم آية 30.
[684]:- في ح، ع3: وقال. انظر: هذا القول في جامع البيان 1/152، وتفسير القرطبي 1/184.
[685]:- هو الربيع بن أنس البكري، بصري، نزل خراسان صدوق، رمي بالتشيع. (ت 40هـ). انظر: طبقات ابن خياط 322، وطبقات ابن سعد 7/369، وتقريب التهذيب 1/243.
[686]:- أورد الطبري معناه في جامع البيان 1/251.
[687]:- في ع ق: الأسرف. وهو تصحيف.
[688]:- في ع2، ع3: صلى الله عليه وسلم.
[689]:- انظر: جامع البيان 1/252، وتفسير القرطبي 1/184.
[690]:- في ح: إلا. وفي ق: إلا أنه.
[691]:- انظر: مفردات الراغب 451، واللسان 7/274.
[692]:- في ع2: كفاراً.
[693]:- في ح: يستترون.
[694]:- الفتح آية 29.
[695]:- لفظ "الزراع" هنا في هذه الآية بمعناه الحقيقي. والشاهد المناسب للاستدلال في تفسير الكفر بالتغطية هو قوله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ)[الحديد: 19].
[696]:- في ق: يستر.
[697]:- في ع3: لأنها. وهو خطأ.
[698]:- في ق: يستر.
[699]:- انظر: مفردات الراغب 451، واللسان 7/274.
[700]:- في ع2: التسمية. وفي ح، ق: التسوية.
[701]:- انظر: هذا التوجيه في مجاز القرآن 1/31.
[702]:- في ع2: للخبر.
[703]:- في ق: زيد. وهو خطأ.
[704]:- في ع3: ففيهما.
[705]:- انظر: مثله في معاني الأخفش 1/28، والمحرر الوجيز 1/107.
[706]:- تكملة موضحة من ح، وهي ساقطة من سائر النسخ.
[707]:- سقط من ع2.
[708]:- قوله: "والاستفهام أن يكون" سقط من ع2.
[709]:- انظر: هذا الوجه في كتاب السبعة، 136، والمحرر الوجيز 1/106.
[710]:- في ع2: تخفيف، وفي ع3: تحيف. وكلاهما تصحيف.
[711]:- هو أبو سعيد عثمان المصري، لقب بورش لشدة بياضه. كان ثقة حجة في القراءة، روى عن الإمام نافع (ت197هـ). انظر: معرفة القراء 126، وطبقات القراء 1/502.
[712]:- هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة. انتهت إليه رئاسة الإقراء بالمدينة (ت169هـ). انظر: طبقات ابن خياط 273، وطبقات القراء 2/330.
[713]:- هو عبد الله بن كثير المكي، التابعي، أحد القراء السبعة إمام أهل مكة في القراءة. روى عن ابن عباس (ت120هـ). انظر: طبقات ابن خياط 282، وطبقات القراء 1/443.
[714]:- انظر: الإملاء 1/16.
[715]:- انظر: كتاب السبعة 137، والإملاء 1/14.
[716]:- هو عبد الله بن أحمد بن بشير القرشي، من كبار القراء، قرأ على الكسائي. (ت242هـ). انظر: طبقات القراء 1/404.
[717]:- هو عبد الله بن عامر، أحد القراء السبعة ومقرئ أهل الشام أخذ القراءة عن أبي الدرداء وروى عنه خلاد بن يزيد. (ت118هـ). انظر: طبقات ابن خياط 311 وطبقات القراء 1/423-435.
[718]:- في ع3: بن. وهو خطأ.
[719]:- هو محمد بن عبد الرحمن السهمي. مقرئ أهل مكة مع ابن كثير وهو أحد القراء الأربعة عشر، أخذ عنه أبو عمرو بن العلاء. (ت123هـ). انظر: معرفة القراء 81، وطبقات القراء 2/167.
[720]:- في ع2، ع3: تدخل وهو تحريف.
[721]:- انظر: المحرر الوجيز 1/107.
[722]:- في ع2، ع3: الألف.
[723]:- في ق: كذلك، وهو تحريف.
[724]:- وهي قراءة ابن عباس وابن إسحاق. انظر: الإملاء 1/15، والمحرر الوجيز 1/107، وتفسير القرطبي 1/185.
[725]:- هو عبد الله الحضرمي النحوي، المقرئ، البصري. أخذ القراءة عن يحيى بن يعمر وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء والأخفش (ت117هـ). انظر: طبقات ابن خياط 215، ونزهة الألبا 26، وطبقات القراء 1/410.
[726]:- انظر: هذا الوجه في الإملاء 1/15، والمحرر الوجيز 1/106-107 وتفسير القرطبي 1/184-185.
[727]:- في ع2، ع3: الأول. وهو خطأ.
[728]:- من ع2: وفي باقي النسخ: عمر. والصواب ما أثبته.
[729]:- هو عيسى بن مينا بن وردان، الملقب بقالون، مقرئ مشهور اختص بنافع (ت220هـ). انظر: طبقات القراء 1/615.
[730]:- هو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، قرأ على نافع، وروى عنه الكسائي (ت180هـ). انظر: طبقات ابن خياط 327، وطبقات القراء 1/163.
[731]:- هو أبو الوليد السلمي، القاضي، مقرئ أهل دمشق ومحدثهم ومفتيهم، روى عن الإمام مالك. (ت244هـ). انظر: تذكرة الحفاظ 2/451، وطبقات القراء 2/354.
[732]:- في ق: خاتم. وهو تصحيف. وأبو حاتم هو سهل بن محمد السجستاني، كان كثير الرواية عالماً باللغة والشعر والقراءات. (ت255هـ). انظر: نزهة الألبا 145 وطبقات القراء 1/320.
[733]:- في ع1، ق: يخفف.
[734]:- في ع1، ق: يحقق.
[735]:- في ع1: استثقال.
[736]:- انظر: تفسير القرطبي 1/185.
[737]:- في ق: خاتم. وهو تصحيف.
[738]:- في ع1، ق: حركتها.
[739]:- في ع1، ق: يخفف.
[740]:- انظر: المحتسب 1/50-51. وتفسير القرطبي 1/185.
[741]:- انظر: الإملاء 1/19، وتفسير القرطبي 1/185.
[742]:- ينتقِد ابن عطية تعقب مكي هذا بقوله: "وكثَّر مكي في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء". انظر: المحرر الوجيز 1/107.