قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم } . أي يموتون وتتوفى آجالهم ، وتوفى واستوفى بمعنى واحد ، ومعنى التوفي أخذ الشيء وافياً .
قوله تعالى : { ويذرون أزواجاً } . يتركون أزواجاً .
قوله تعالى : { يتربصن } . ينتظرن .
قوله تعالى : { بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } . أي يعتددن بترك الزينة والطيب والنقلة ، على فراق أزواجهن هذه المدة ، إلا أن يكن حوامل فعدتهن بوضع الحمل ، وكانت عدة الوفاة في الابتداء حولاً كاملاً لقوله تعالى : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج ) ثم نسخت بأربعة أشهر وعشرا . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : كانت هذه العدة يعني أربعة أشهر وعشراً ، واجبة عند أهل زوجها ، فأنزل الله تعالى : { متاعاً إلى الحول } فجعل لها تمام السنة ، سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت وإن شاءت خرجت وهو قول الله عز وجل : { غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن } فالعدة كما هي واجبة عليها . وقال عطاء : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نسخت هذه الآية عدتها عند أهله وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ويجب عليها الإحداد في عدة الوفاة ، وهي أن تمتنع من الزينة والطيب فلا يجوز لها تدهين رأسها بأي دهن ، سواء كان فيه طيب أو لم يكن ، ولها تدهين جسدها بدهن لا طيب فيه ، فإن كان فيه طيب فلا يجوز ، ولا يجوز لها أن تكتحل بكحل فيه طيب أو فيه زينة كالكحل الأسود ولا بأس بالكحل الفارسي الذي لا زينة فيه ، فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة فرخص فيه كثير من أهل العلم ، منهم سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وعطاء والنخعي ، وبه قال مالك وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي رحمه الله : تكتحل به ليلا ، وتمسحه بالنهار . قالت أم سلمة : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبراً فقال : إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار " . ولا يجوز لها الخضاب ولا لبس الوشي والديباج والحلي ، ويجوز لها لبس البيض من الثياب ولبس الصوف والوبر ، ولا تلبس الثوب المصبوغ للزينة ، كالأحمر والأخضر الناضر والأصفر ، ويجوز ما صبغ لغير زينة كالسواد والكحلي وقال سفيان : لا تلبس المصبوغ بحال .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب ، عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت زينب : " دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفى أبوها أبو سفيان بن حرب ، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة ، خلوق أو غيره ، فدهنت به جارية ، ثم مست بطنها ، ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : لا يحل لامرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " . وقالت زينب : " ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفى أخوها عبد الله ، فدعت بطيب ، فمست به ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " قالت زينب : وسمعت أمي أم سلمة تقول : " جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن ابنتي توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، ثم قال : هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول " قال حميد : فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبا ، ولا شيئا ، حتى يمر بها سنة ، ثم تؤتي بدابة ، حمارا أو شاة أو طيرا ، فتفض به ، فقلما تفتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج ، فتعطي بعرة فترمي بها ، ثم تراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب أو غيره .
وقال مالك : تفتض أي تنسلخ جلدها . وقال سعيد بن المسيب : الحكمة في هذه المدة أن فيها ينفخ الروح في الولد ، ويقال إن الولد يرتكض أي يتحرك في البطن لنصف مدة الحمل ، أربعة أشهر وعشراً ، قريباً من نصف مدة الحمل ، وإنما قال عشراً بلفظ المؤنث ، لأنه أراد الليالي ، لأن العرب إذا أبهمت العدد بين الليالي والأيام غلبت عليها الليالي ، فيقولون : صمنا عشراً ، والصوم لا يكون إلا بالنهار . وقال المبرد : إنما أنث العشر لأنه أراد المدة ، أي عشر مدد ، كل مدة يوم وليلة ، وإذا كانت المتوفى عنها زوجها حاملاً فعدتها بوضع الحمل عند أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم .
وروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أنها تنتظر آخر الأجلين ، من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشراً ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى ، أراد بالقصرى سورة الطلاق ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) نزلت بعد قوله تعالى : ( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ) ، في سورة البقرة فحمله على النسخ ، وعامة الفقهاء خصوا الآية بحديث سبيعة وهو : ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة أن سبيعة نفست بعد وفاة زوجها بليال فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح فأذن لها فنكحت .
قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن } . أي انقضت عدتهن .
قوله تعالى : { فلا جناح عليكم } . خطاب للأولياء .
قوله تعالى : { فيما فعلن في أنفسهن } . أي من اختيار الأزواج دون العقد فإن العقد إلى الولي ، وقيل فيما فعلن من التزين للرجال زينة لا ينكرها الشرع .
قوله تعالى : { بالمعروف والله بما تعملون خبير } . والإحداد واجب على المرأة في عدة الوفاة ، أما المعتدة عن الطلاق نظر ، فإن كانت رجعية فلا إحداد عليها في العدة ، لأن لها أن تضع ما يشوق قلب الزوج إليها ليراجعها ، وفي البائنة بالخلع والطلقات الثلاثة قولان : أحدهما : الإحداد كالمتوفى عنها زوجها ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال أبو حنيفة ، والثاني : لا إحداد عليها ، وهو قول عطاء ، وبه قال مالك .
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
أي : إذا توفي الزوج ، مكثت زوجته ، متربصة أربعة أشهر وعشرة أيام وجوبا ، والحكمة في ذلك ، ليتبين الحمل في مدة الأربعة ، ويتحرك في ابتدائه في الشهر الخامس ، وهذا العام مخصوص بالحوامل ، فإن عدتهن بوضع الحمل ، وكذلك الأمة ، عدتها على النصف من عدة الحرة ، شهران وخمسة أيام .
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : انقضت عدتهن { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } أي : من مراجعتها للزينة والطيب ، { بِالْمَعْرُوفِ } أي : على وجه غير محرم ولا مكروه .
وفي هذا وجوب الإحداد مدة العدة ، على المتوفى عنها زوجها ، دون غيرها من المطلقات والمفارقات ، وهو مجمع عليه بين العلماء .
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : عالم بأعمالكم ، ظاهرها وباطنها ، جليلها وخفيها ، فمجازيكم عليها .
وفي خطابه للأولياء بقوله : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } دليل على أن الولي ينظر على المرأة ، ويمنعها مما لا يجوز فعله ويجبرها على ما يجب ، وأنه مخاطب بذلك ، واجب عليه .
وبعد استيفاء التشريع للمطلقات وللآثار المتخلفة عن الطلاق يأخذ في بيان حكم المتوفى عنها زوجها . . عدتها . وخطبتها بعد انقضاء العدة . والتعريض بالخطبة في أثنائها :
( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا . فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف . والله بما تعملون خبير ) .
( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم . علم الله أنكم ستذكرونهن . ولكن لا تواعدوهن سرا ، إلا أن تقولوا قولا معروفا . ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله . واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه . واعلموا أن الله غفور حليم ) . .
والمتوفى عنها زوجها كانت تلقى الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله . . وعند العرب كانت إذا مات زوجها دخلت مكانا رديئا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا مدة سنة ، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر جاهلية سخيفة تتفق مع سخف الجاهلية ، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة : حمار أو شاة . . . إلخ . . فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا العنت ، بل رفعه كله عن كاهلها ؛ ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده . . وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة ، وحياة عائلية مطمئنة . جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال - ما لم تكن حاملا فعدتها عدة الحامل - وهي أطول قليلا من عدة المطلقة . تستبريء فيها رحمها ، ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها . وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب . فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها . سواء من أهلها أو من أهل الزوج . ولها مطلق حريتها فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله وشريعته ، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات ، ولها أن تتلقى خطبة الخطاب ، ولها أن تزوج نفسها ممن ترتضي . لا تقف في سبيلها عادة بالية ، ولا كبرياء زائفة . وليس عليها من رقيب إلا الله :
هذا أمر من الله{[4014]} للنساء اللاتي يُتَوفّى عنهن أزواجهن : أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال{[4015]} وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ، ومستنده في غير
المدخول بها عُمُوم الآية الكريمة ، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي : أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوّج امرأة فمات ولم يدخل بها ، ولم يفرض لها ؟ فترددوا إليه مرارًا{[4016]} في ذلك فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابًا فمن الله ، وإن يكُن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : [ أرى ]{[4017]} لها الصداق كاملا . وفي لفظ : لها صداق مثلها ، لا وكس ، ولا شَطَط ، وعليها العدّة ، ولها الميراث . فقام معقل بن سنان{[4018]} الأشجعي فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضى به في بَرْوَع بنت واشق . ففرح عبد الله بذلك فرحًا شديدًا . وفي رواية : فقام رجال من أشجع ، فقالوا : نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بَرْوَع بنت وَاشِق{[4019]} .
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها ، وهي حامل ، فإن عدّتها بوضع الحمل ، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة ؛ لعموم قوله : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] . وكان ابن عباس يرى : أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع ، أو أربعة أشهر وعشر ، للجمع بين الآيتين ، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي ، لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية ، المخرج في الصحيحين من غير وجه : أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة ، وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، وفي رواية : فوضعت حملها بعده بليال ، فلما تَعَلَّتْ من نفاسها تجملت للخُطَّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك ، فقال لها : ما لي أراك مُتَجَمِّلة ؟ لعلك ترجين النكاح . والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعَشْر . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حلَلَتُ حين وضعتُ ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي{[4020]} .
قال أبو عمر بن عبد البر : وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سُبَيعة ، يعني لما احتج عليه به . قال : ويصحح ذلك عنه : أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة ، كما هو{[4021]} قول أهل العلم قاطبة .
وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة ، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة ، شهران وخمس ليال ، على قول الجمهور ؛ لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحَدّ ، فكذلك{[4022]} فلتكن على النصف منها في العدة . ومن العلماء - كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية - من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام ؛ لعموم الآية ، ولأن العدة من باب الأمور الجبلية{[4023]} التي تستوي فيها الخليقة . وقد ذكر سعيدُ بن المسيب ، وأبو العالية وغيرهما : أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا ؛ لاحتمال اشتمال الرحم على حمل ، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودًا ، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما : " إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح " {[4024]} . فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر ، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه ، والله أعلم .
قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : سألت سعيد بن المسيب : ما بال العشرة ؟ قال : فيه ينفخ الروح . وقال الربيع بن أنس : قلت لأبي العالية : لِمَ صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال : لأنه ينفخ فيها الروح . رواهما ابن جرير . ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد ، في رواية عنه ، إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا ؛ لأنها صارت فراشا كالحرائر ، وللحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة بن ذؤيب ، عن عمرو بن العاص أنه قال : لا تُلْبِسوا علينا سنة نبينا ، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر{[4025]} ورواه أبو داود ، عن قتيبة ، عن غُنْدَر - وعن ابن المثنى ، عن عبد الأعلى . وابن ماجة ، عن علي بن محمد ، عن وَكِيع - ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن مَطَر الوراق ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة ، عن عمرو بن العاص ، فذكره{[4026]} .
وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث ، وقيل : إن قبيصة لم يسمع عَمْرًا ، وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف ، منهم : سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبو عياض{[4027]} ، والزهري ، وعمر بن عبد العزيز . وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وهو أمير المؤمنين . وبه يقول الأوزاعي ، وإسحاق بن رَاهْوَيه ، وأحمد بن حنبل ، في رواية عنه . وقال طاوس وقتادة : عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصفُ عدة الحرة : شهران وخمس ليال . وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن صالح بن حَيّ : تعتد بثلاث حيض . وهو قول علي ، وابن مسعود ، وعطاء ، وإبراهيم النخَعي . وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد في المشهور عنه : عدتها حيضة . وبه يقول ابن عمر ، والشعبي ، ومكحول ، والليث ، وأبو عبيد ، وأبو ثَور ، والجمهور .
قال الليث : ولو مات وهي حائض أجزأتها . وقال مالك : فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهر . وقال الشافعي والجمهور : شهر ، وثلاثة أحب إلي . والله أعلم .
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها ، لما ثبت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر أن تُحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا " {[4028]} . وفي الصحيحين أيضا ، عن أم سلمة : أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن ابنتي تُوفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينُها ، أفنكْحُلُها ؟ فقال : " لا " . كل ذلك يقول : " لا " مرتين أو ثلاثًا . ثم قال : " إنما هي أربعة أشهر وعشر{[4029]} وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة " . قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفْشًا ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا ، حتى تمر بها سنة ، ثم تخرج فتعطى بَعْرة فترمي بها ، ثم تؤتى بدابة - حمار أو شاة أو طير - فَتَفْتَضَّ به فقلما تفتض بشيء إلا مات{[4030]} .
ومن هاهنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها ، وهي قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [ البقرة : 240 ] ، كما قاله ابن عباس وغيره ، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره .
والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحُلِيٍّ وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدًا ، ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدًا ، وهل يجب في عدة البائن ؟ فيه قولان .
ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن ، سواء في ذلك الصغيرة والآيسة{[4031]} والحرة والأمة ، والمسلمة والكافرة ، لعموم الآية . وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه : لا إحداد على الكافرة . وبه يقول أشهبُ ، وابنُ نافع من أصحاب مالك . وحجة قائل هذه المقالة قولهُ صلى الله عليه وسلم{[4032]} : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدّ على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا " : قالوا : فجعله تعبدًا{[4033]} . وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها ، لعدم التكليف . وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها{[4034]} . ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع ، والله الموفق للصواب .
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : انقضت عدتهن{[4035]} . قاله الضحاك والربيع بن أنس ، { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } قال الزهري : أي : على أوليائها { فِيمَا فَعَلْنَ } يعني : النساء اللاتي انقضت عدتهن . قال العوفي{[4036]} عن ابن عباس : إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها ، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنَّع وتتعرض للتزويج ، فذلك المعروف . روي عن مقاتل بن حيان نحوه ، وقال ابن جريج عن مجاهد : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قال : هو النكاح الحلال الطيب . وروي عن الحسن ، والزهري ، والسدي نحو ذلك .
{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } أي أزواج الذين ، أو والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم ، كقولهم السمن منوان بدرهم . وقرئ { يتوفون } بفتح الياء أي يستوفون آجالهم ، وتأنيث العشر باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور والأيام ، ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قط ذهابا إلى الأيام حتى إنهم يقولون صمت عشرا ويشهد له قوله تعالى : { إن لبثتم إلا عشرا } ثم { إن لبثتم إلا يوما } ولعل المقتضى لهذا التقدير أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ، ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين ، وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها ، وعموم اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية فيه ، كما قاله الشافعي والحرة والأمة كما قاله الأصم ، والحامل وغيرها ، لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة ، والإجماع خص الحامل منه لقوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا . { فإذا بلغن أجلهن } أي انقضت عدتهن . { فلا جناح عليكم } أيها الأئمة أو المسلمون جميعا . { فيما فعلن في أنفسهن } من التعرض للخطاب وسائر ما حرم عليهن للعدة . { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكره الشرع ، ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكره فعليهم أن يكفوهن ، فإن قصروا فعليهم الجناح . { والله بما تعملون خبير } فيجازيكم عليه .