غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (234)

233

الحكم الثالث عشر : عدة الوفاة { والذين يتوفون } ومعناه يموتون ويقبضون قال :

{ الله يتوفى الأنفس حين موتها } [ الزمر : 42 ] وأصل التوفي أخذ الشيء كاملاً وافياً . ويبنى للمفعول ومعناه ما قلنا ، وللفاعل ومعناه استوفى أجله ورزقه وعليه قراءة علي رضي الله عنه { يتوفون } بفتح الياء . والذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل : من المتوفي - بكسر الفاء - ؟ فقال : الله . وكان أحد الأسباب الباعثة لعليّ رضي الله عنه على أن أمره بأن يضع كتاباً في النحو . فلعل السبب فيه أن ذلك الشخص لم يكن بليغاً وهذا المعنى من مستعملات البلغاء فلهذا لم يعتد بقوله ، وحمله على متعارف الأوساط { ويذرون } يتركون ولا يستعمل منه الماضي والمصدر استغناء عنهما بتصاريف ترك . والأزواج ههنا النساء { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر } مثل قوله { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] وقد مر . { وعشراً } أي يعتددن هذه المدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام . وإنما قيل : { عشراً } ذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها . قال في الكشاف : ولا نراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام . وقيل في سبب التغليب : إن مبدأ الشهر من الليل ، والأوائل أقوى من الثواني . وأيضاً هذه الأيام أيام الحزن ، وأيام المكروه خليقة أن تسمى ليالي استعارة ، أو المراد عشر مدد كل منها يوم بليلته . وذهب الأوزاعي والأصم إلى ظاهر الآية وأنها إذا انقضت لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج نقل عن الحسن وأبي العالية أنه تعالى إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة . قلت : ولعل هذا من الأمور التي لا يعقل معناها كأعداد الركعات ونصب الزكوات ، وإنما الله ورسوله أعلم بذلك . وهذه العدة واجبة على كل امرأة مات زوجها إلا إذا كانت أمة فإن عدتها نصف عدة الحرة عند أكثر الفقهاء . وعن الأصم أن عدتها عدة الحرائر تمسكاً بظاهر عموم الآية ، وقياساً على وضع الحمل وإلا إذا كانت المرأة حاملاً فإنها إذا وضعت الحمل حلت وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة لقوله تعالى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] .

ولو زعم قائل أن ذلك في الطلاق فليعول على قصة سبيعة الأسلمية ، ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " حللت فانكحي من شئت " . وعن علي رضي الله عنه أنها تتربص أبعد الأجلين . ولا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وذات الأقراء وغيرها والمدخول بها وغيرها . وقال ابن عباس : لا عدة عليها قبل الدخول . ورد بعموم الآية ، ولهذا أيضاً لم يفرق بين أن ترى المعتدة في المدة المذكورة دم الحيض على عادتها أو لا تراه خلافاً لمالك فإنه قال : لا تنقضي عدتها حتى تر عادتها من الحيض في تلك الأيام مثل التي كانت عادتها . فإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة يكفيها حيضة واحدة ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا يكفيها الشهور ، ثم مذهب الشافعي أنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة ، كما أن ذات الأقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط وتعتبر المدة بالهلال ما أمكن ، فإن مات الزوج في خلال شهر هلالي والباقي أكثر من عشرة أيام فتعد ما بقي وتحسب ثلاثة أشهر بعده بالأهلة وتكمل ذلك الباقي ثلاثين وتضم إليها عشرة أيام ، فإذا انتهت من اليوم الأخير إلى الوقت الذي مات فيه الزوج فقد انقضت العدة ، وإن كان الباقي دون عشرة أيام فتعده وتحسب أربعة أشهر بالأهلة وتكمل الباقي عشرة من الشهر السادس ، وإن كان الباقي عشرة أيام فتعتد بها وبأربعة أشهر بالأهلة بعدها ، وإن انطبق الموت على أول الهلال فتعتد بأربعة أشهر بالأهلة وبعشرة أيام من الشهر الخامس . واختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة ؟ فعن بعضهم - ويوافقه جديد قول الشافعي - أنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه " وأيضاً فالنكاح معلوم بيقين فلا يزال إلا بيقين . وقال الأكثرون : السبب هو الموت . فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى ، والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها تكفي في انقضاء عدتها هذه المدة . ثم المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح بالإجماع ، والامتناع عن الخروج من المنزل إلا عند الضرورة والحاجة والإحداد ويعني به ترك التزين بثياب الزينة وترك التحلي والتطيب والتدهن والاكتحال بالإثمد ، ويحرم عليها أن تخضب بالحناء ونحو ذلك فيما يظهر من اليدين والرجلين والوجه . ولا منع منه فيما تحت الثياب ولا منع من التزين في الفرش والبسط والستور وأثاث البيت ومن التنظيف بغسل الرأس والامتشاط وقلم الأظفار والاستحداد ودخول الحمام وإزالة الأوساخ . والعدة تنقضي إن تركت الإحداد ولكنّها تعصي لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " وعن الحسن والشعبي أنه غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه لكنه صلى الله عليه وسلم قال : " المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلى ولا تختضب ولا تكتحل " والممشقة المصبوغة بالمشق وهو الطين الأحمر . وقد يحتج بقوله { والذين يتوفون منكم } من قال : الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع وإلا لم يخص الخطاب في { منكم } بالمؤمنين . والجواب إنما خصوا بالخطاب لأنهم هم العاملون بذلك كقوله تعالى { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] مع أنه منذر للكل { ليكون للعالمين نذيراً } [ الفرقان : 1 ] { فإذا بلغن أجلهن } إذا انقضت عدتهن { فلا جناح عليكم } أيها الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد ، أو أيها الحكام وصلحاء المسلمين لأنهن إذا تزوجن في مدة العدة وجب على كل أحد منعهن عن ذلك ، فإن عجز استعان بالسلطان وذلك لأن المقصود من هذه العدة الأمن من اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول . وقيل : معناه لا جناح عليكم وعلى النساء فيما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب بالتزين والتطيب ونحوهما مما تنفرد المرأة بفعله ، وفيه دليل على وجوب الإحداد بالمعروف بالوجه الذي يحسن عقلاً وشرعاً . وقد يحمل أصحاب أبي حنيفة الفعل ههنا على التزويج فيستدلونه به على جواز النكاح بلا ولي . بعد تسليم أن المراد من الفعل هو التزويج أن الفعل قد يسند إلى المسبب مثل " بنى الأمير داراً " وقد تقدم في قوله { أن ينكحن أزواجهن } [ البقرة : 232 ] ثم ختم الآية بالتهديد المشتمل على الوعيد فقال : { والله بما تعملون خبير } .