فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (234)

والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير 234

( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) .

لما ذكر سبحانه عدة الطلاق ، واتصل بذكرها ذكر الإرضاع ، عقب ذلك بذكر عدة الوفاة لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق .

قال الزجاج : ومعنى الآية والرجال الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا أي ولهم زوجات فالزوجات يتربصن ، وقال أبو علي الفارسي : تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم وهو كقولك السمن منوان بدرهم أي منه .

وحكى عن سيبويه أن المعنى وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون ، وقيل التقدير : وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ، ذكره صاحب الكشاف .

وفيه أن قوله ويذرون أزواجا لا يلائم ذلك التقدير لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة ، وقال بعض النحاة من الكوفيين : إن الخبر عن الذين متروك والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن .

وأصل التوفي أخذ الشئ وافيا فمن مات فقد استوفى عمره كاملا ، يقال توفي فلان يعني قبض وأخذ ، والخطاب لكافة الناس بطريق التلوين والمراد بالأزواج هنا النساء لأن العرب تطلق اسم الزوج على الرجل والمرأة .

و المعنى الذين يموتون ويتركون النساء ينتظرن بأنفسهن قدر هذه المدة .

ووجه الحكمة في جعل العدة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر والأنثى لأربعة فزاد الله سبحانه على ذلك عشرا لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة فتتأخر حركته قليلا ، ولا يتأخر عن هذا الأجل .

وظاهر هذه الآية العموم وإن كان من مات عنها زوجها تكون عدتها هذه العدة ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) وإلى هذا ذهب الجمهور ، وروي عن بعض الصحابة وجماعة من أهل العلم أن الحامل تعتد بآخر الأجلين جمعا بين العام والخاص وإعمالا لهما .

والحق ما قاله الجمهور ، والجمع بين العام والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة ولا قوانين الشرع ، ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بأن حكمه مغاير لحكم العام ومخالف له .

وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوج بعد الوضع .

و التربص التأني والتصبر عن النكاح ، وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض والآيسة وأن عدتهن جميعا للوفاة أربعة أشهر وعشر ، وقيل إن عدة الأمة نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام قال ابن العربي : إجماعا إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى بين الحرة والأمة ، وقال الباجي : ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما يروى عن ابن سيرين أنه قال : عدتها عدة الحرة وليس بالثابث عنه .

ووجه ما ذهب إليه الأصم وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم .

ووجه ما ذهب اليه من عداهما قياس عدة الوفاة على الحد فإنه ينصف للأمة بقوله سبحانه ( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) وقد تقدم حديث " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " {[230]} وهو صالح للاحتجاج به ، وليس المراد منه إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة وعدتها على النصف من عدتها ، ولكنه لما لم يمكن أن يقال طلاقها تطليقة ونصف ، وعدتها حيضة ونصف لكون ذلك لا يعقل ، كانت عدتها وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبرا للكسر .

ولكن ههنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور وهو أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا هو ما قدمناه من معرفة خلوها من الحمل ولا يعرف إلا بتلك المدة ولا فرق بين الحرة والأمة في مثل ذلك بخلاف كون عدتها في غير الوفاة حيضتين فإن ذلك يعرف به خلو الرحم ويؤيد عدم الفرق ما سيأتي في عدة أم الولد .

واختلف أهل العلم في عدة أم الولد بموت سيدها ، فقال سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي واسحق بن راهوية وأحمد بن حنبل في رواية عنه إنها تعتد بأربعة أشهر وعشر لحديث عمرو بن العاص قال : لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر{[231]} ، أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه ، وضعفه أحمد وأبو عبيد ، وقال الدارقطني الصواب أنه موقوف .

وقال طاوس وقتادة عدتها شهران وخمس ليال ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح تعتد بثلاث حيض ، وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي ، وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه عدتها حيضة وغير الحائض شهر ، وبه يقوله ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد أبو ثور والجمهور .

وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت هذه الآية متقدمة في التلاوة{[232]} ( فإذا بلغن أجلهن ) المراد بالبلوغ هنا انقضاء العدة ( فلا جناح عليكم ) الخطاب للأولياء لأنهم هم الذين يتولون العقد وقيل المخاطب جميع المسلمين ( فيما فعلن في أنفسهن ) من التزين والتعرض للخطاب ، والنقلة من المسكن الذي كانت معتدة فيه ، وقيل عنى بذلك النكاح خاصة والأول أولى ( بالمعروف ) الذي لا يخالف شرعا ولا عادة مستحسنة .

وقد استدل بذلك على وجوب الإحداد على المعتدة عدة الوفاة ، وقد ثبت ذلك في الصحيحين وغيرها من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " {[233]}

وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدة الوفاة ، والإحداد ترك الزينة من الطيب وليس الثياب الجيدة ، والحلي وغير ذلك ولا خلاف في وجوب ذلك في عدة الوفاة ولا خلاف في عدة الرجعية واختلفوا في عدة البائنة على قولين ، ومحل ذلك كتب علم الفروع .

واحتج اصحاب أبي حنيفة على جواز النكاح بغير ولي بهذه الآية لأن إضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة ، وأجيب بأنه خطاب للأولياء ولو صح العقد بغير ولي لما كان مخاطبا ( والله بما تعملون خبير ) لا يخفى عليه خافية .


[230]:الدارقطني كتاب الطلاق والخلع 4/38.
[231]:المستدرك كتاب الطلاق 2/209
[232]:مسلم 1486 – البخاري 280 =أخرجه مالك(2(596/101) وعنه البخاري(3/480-481) وكذا مسلم (4/202) والسياق له وكذ أبو داود(2299) والنسائي(2/114) والترمذي(1/225) والطحاوي(2/44)والبيهقي(7/437)) كلهم عن مالك به. وروى أحمد(2/324) عنه الحديث الثاني، و(6/291-292-326) وابن الجارود(768) عن شعبة عن حميد ابن نافع به الحديث الثالث، وأخرج الدارمي(2/167) وابن الجارود(765) من هذا الوجه الأول.
[233]:حديث ام عطية، ترويه حفصة وهي بنت سيرين عنه وبه زيادة: "ولا تلبس ثوبا مصبوغا ،إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار".