تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (234)

عدة المتوفى عنها زوجها

221

{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير( 234 ) }

المفردات :

ويذرون أزواجا : جمع زوج ، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والمقصود هنا الزوجات أي يتركون زوجات لهم في عصمتهم وقت الوفاة .

يتربصن : ينتظرن في بيت لزوجية .

المعنى الإجمالي :

والذين يتوفون منكم أيها الرجال ويتركون زوجات لهم غير حوامل ، فعليهن أن يمكثن بعدهم دون تعرض للزواج ، مدة أربعة أشهر هلالية وعشر ليال بأيامها ، استبراء للرحم وحدادا على الأزواج ، فإذا انتهت هذه المدة فلا تبعة عليكم أيها الأولياء لو تركتموهن يأتين من شريف الأعمال التي يرضاها الشرع ليصلن بها إلى الزواج فلا ينبغي أن تمنعوهن من ذلك ولا يجوز لهن أن يأتين من الأعمال ما ينكره الشرع ويأباه ، فإن الله مطلع على سرائركم ويعلم أعمالكم فيحاسبكم على ما تعملون .

التفسير :

{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا . . . }

والذين يتوفاهم الله تعالى منكم أيها المسلمون ويتركون من خلفهم أزواجا ، فعلى هؤلاء الأزواج اللاتي ارتبطن برجالهن ارتباطا قويا متينا ، ثم فرق الموت بينهم وبينهن ، عليهن أن : { يتربصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشرا . . . } أي عليهم أن ينتظرن انقضاء عدتهن ، فيحسبن أنفسهم عن الزواج وعن التزيين وعن التعرض للخطاب ، مدة أربعة أشهر وعشر ليال ، وفاء لحق الزوج المتوفي واستبراء للرحم .

قال الأستاذ سيد قطب : " والمتوفي عنها زوجها كانت تلقي الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله .

وعند العرب كانت المرأة إذا مات زوجها دخلت مكانا رديئا ، ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا مدة سنة ، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر الجاهلية ، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة كالحمار . . . إلخ . فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا النعت بل رفعه كله عن كاهلها ، ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده . . . وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة ، وحياة عائلية مطمئنة . . جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال ما لم تكن حاملا فعدتها عدة الحامل ، وهي أطول قليلا من عدة المطلقة . تستبرئ فيها رحمها ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب . فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها ، سواء من أهلها أو من أهل الزوج ، ولها مطلق الحرية فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله تعالى وشريعته ، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات ولها أن تتلقى خطبة الخطاب ولها أن تزوج نفسها ممن ترضى لا تقف في سبيلها عادة بالية ولا كبرياء زائفة ، وليس عليها من رقيب إلا الله( 279 ) .

والتعبير بقوله : { يتربصن بأنفسهن } تعبير دقيق حكيم أي عليهن أن يمنعن أنفسهن عن النكاح وعن التزيين وعن الخروج من منزل الزوجية إلا إذا كانت هناك ضرورة لهذا الخروج مدة أربعة أشهر وعشرة أيام ، وذلك لأن المرأة المؤمنة الوفية يأبى عليها دينها ووفاؤها لزوجها المتوفى عنها ، أن تعرض نفسها على غيره بعد فترة قصيرة من وفاته ، فإن هذا أمر مستهجن في شرع الله ، وفي عرف العقلاء من الناس ، إذ هذه المدة التي جاءت في الآية التي حددها الله تعالى لمعرفة براءة الرحم من الحمل ، وهي التي تخف فيها مرارة الفراق بين زوجين ، ربط الله بينهما برابطة المودة والرحمة .

والحكمة من جعل العدة أربعة أشهر وعشرا أمران :

أولهما : أن الأشهر الأربعة هي المدة التي فيها الحمل ويستبين ، وقد جعلت العشر بعدها للاحتياط .

ثانيهما : أن مدة أربعة الأشهر هي المدة التي قدرها الشارع أقصى مدة للحرمان من الرجال ، ولذلك جعل الإيلاء مدته أربعة أشهر . فكان التنسيق بالأحكام الشرعية أن تجعل مدة الإحداد على الأزواج في حدود هذه المدة ومقاربة لها في الجملة( 280 ) .

{ فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف }

أي فإذا بلغن أجلهن واستوفين عدة الوفاة الواجبة عليهن كاملة دون نقص واستبان حال الرحم ، فلم يكن فيه حمل ، فلا جناح ليكم أيها المسلمون فيما فعلن في أنفسهم من زينة وغيرها مما امتنعن عنه إبان فترة العدة .

وينبغي أن يكون الفطام تدريجيا ويجوز أن يفطم الصغير لأقل من عامين من ولادته ، إذا كانت صحته تعاونه على ذلك ، أما إذا كانت صحته لا تعاونه ، ولا يستسيغ الطعام الخارجي فإنه يستمر حتى يتم حولين كاملين وبعدهما يمكن أن يستغني الطفل استغناءا كاملا عن لبن الأم .

وقد أثبت الأطباء الثقاة أهمية لبن الأم وحنانها ورعايتها ، في تحسين أحوال الطفل النفسية والصحية .

{ لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي أن هناك الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة ف‘ذا أراد الأبوان أن ينقصا مدة الرضاع عن الحولين كان لهما ذلك .

قال النسفي : والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئرا إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه ، ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجته أو معتدة( 277 ) .

ونرى أن الأب والأم كلاهما شريك في التبعة وكلاهما مسئول تجاه هذا الصغير الرضيع وهي تمده باللبن والحضانة ، وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه ، وهناك تكامل وتعاون إنساني وعاطفي في رعاية الصغير ، فالفطرة توجب على الأم كفالة الطفل وإرضاعه والعناية به ، كما أوجب الله تعالى على الآباء أن يقدموا إلى الوالدات ما يلزمهن من نفقة وكسوة بالمعروف ، أي بالطريقة التي تعارف عليها العقلاء دون إسراف أو تقتير .

{ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } والمراد برزقهن نفقتهن .

وقد أوجبت الآية على الوالد أن ينفق على أم رضيعه يكسوها سواء أكانت زوجة له أو مطلقة منه ، وذلك أجرة لها على إرضاع ولدهما ، بهذا قال الشافعي .

وعند الأحناف : لا تأخذ الزوجة أجرة على الرضاع ما دامت في عصمة الزوج أو العدة ، اكتفاء بنفقتها المشروعة لها وكل من النفقة والكسوة واجبان حسب المعروف بين الناس ، بلا إسراف ولا تقتير بحيث تكون في وسع طاقته .

{ لا تكلف نفس إلا وسعها . . . }

فكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته ، فلا يلزم الوالد بما يشق عليه ، بل يكون الأجر في حدود طاقته . ولا تلزم الأم بالإرضاع دون نفقة كافية لها وللرضيع ، بل ينبغي أن يتعاونا الطرفان وأن يقوم كل طرف بواجبه نحو ولده .

{ لا تضار والدة بولدها ولا مولود بولده . . . }

فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولفتها ليهددها فيه ، أو تقبل رضاعه بلا مقابل ، ولا ينبغي أن يكلفها بما ليس في مقدورها ، أو ما يخالف وظيفتها ولا ينبغي أن يمنعها شيئا من نفقتها .

ولا تضار والدة زوجها بسبب ولدها ، بأن تطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد ، وأن تقول اطلب مرضعا ، بعد أن ألفها الرضيع .

وقدمت الأم في الجملة الكريمة لأن الشأن فيها أن يكون حنانها أشد ، وعاطفتها أرق ، ولأن مظنة إنزال العنف والأذى بها أقرب لضعفها عن الأب .

فالجملة الكريمة توجيه سديد وإرشاد حكيم للآباء والأمهات ، إلى أن يقوم كل منهما بواجبه نحو الأولاد الذين هم ثمار لهما .

{ وعلى الوارث مثل ذلك }

والوارث هو من يصير إليه مال الميت بعد الموت بحق الإرث والإشارة بقوله : ذلك تعود إلى الحكم المتقدم وهو الرزق والكسوة وترك الأضرار .

أي أن والد الرضيع إذا مات قام وارثه بالرزق والكسوة ، بالمعروف لوالدة الطفل التي ترضعه .

وقال الألوسي ما ملخصه : " والمراد بالوارث وارث الود ، فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب ، من الرزق والكسوة بالمعروف ، إن لم يكن للولد مال وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة وخلق كثير . وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي . وقال الشافعي : المراد وارث الأب يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجبا على الأب .

وقيل : المراد بالوارث الباقي من الأبوين ، وجاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني " ( 278 ) .

وعلى أية حال فالجملة الكريمة تغرس معاني الإخاء والتراحم والتكافل بين أبناء الأسرة الواحدة فالقادر ينفق على العاجز والغني يمد الفقير بحاجته ، وبذلك تسعد الأسرة وتسودها روح المحبة والمودة ، وهكذا لا يضيع الطفل إذا مات والده ، فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات .

{ فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما . . . }

قال القرطبي : الفصال والفصل : وأصله التفريق فهو تفريق بين الصبي والثدي ومنه سمي الفصيل .

فإذا شاء الوالد والوالدة فطام الرضيع قبل استيفاء العامين لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام ، لسبب صحي أو سواه ، فلا جناح عليهما إذ تم هذا بالرضا بينهما ، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكل إليهما رعايته ، المفروض عليهما حمايته .

{ وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف . . . }

أي وإن أردتم أيها الآباء أن تسترضعوا مراضع لأولادكم ، ورضيت الأمهات بذلك ، فلا إثم عليكم فيما تفعلون ، ما دمتم تقصدون مصلحة أولادكم ، وعليكم أن تسلموا هؤلاء المراضع أجرهن ، بالطريقة التي يقرها الشرع وتستحسنها العقول السليمة والأخلاق القويمة .

" عليه لا يجوز ، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما و رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز ، وكذلك ما أشبهه ، وجوز ماعدا ذلك ولا يجوز التعريض لخطبة المطلقة رجعيا لأنها كالزوجة ، وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها " ( 283 ) .

{ علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن إلا أن تقولوا قولا معروفا . . . }

فهذه الجملة كالتعليل لما قبلها ، وقد أباح الله للرجال أن يفكر في الزواج من المرأة وأن تهفو نفسه إليها ، وأن يذكرها مع نفسه ، فذلك يتعلق بأمر فطري ، والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها ، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها ومن ثم ينهي فقط عما يخالف نظافة الشعور ، وطهارة الضمير ولذلك حرم الوعد السري بين الرجل والمرأة المعتدة ، وأباح الكلمة الطيبة ، والإشارة والتلميح بالمعروف .

{ ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله . . . }

ولا تقصدوا قصد جازما تنفيذ هذا النكاح ، حتى ينتهي ما كتب وفرض في العدة ، إذ العاقل لا يستعجل أمرا قبل حلول وقته ، وإنما الذي يسوغ لكم هو أن تتموا عقد الزواج بعد انتهاء العدة ، وبعد أن يكون جو الأحزان قد فتر وخفت حدته .

وإذا كان قد نهى عن العزم على العقل قبل فراغ العدة ، عن العقد من باب أولي ، ومن المعلوم أن عقد النكاح في زمن العدة باطل ، والمباشرة حينئذ زنا ، والتفريق بينهما واجب لأن من استحل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه ، كالقاتل يعاقب بحرمانه من ميراث المقتول ، وهذا رأي جمهور العلماء .

وقيل : يفسخ النكاح بينهما ، فإذا انتهت العدة حلت له ، ولم يتأبد التحريم ، ولكل فريق أدلته في كتب الفقه .

{ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه . . . }

اعلموا أن الله مطلع عليكم رقيب على ضمائركم ، وشهيد على أفعالكم ، فاتقوا غضبه واحذروا بطشه ، وثقوا بعفوه وغفرانه .

{ واعلموا أن الله غفور حليم }

غفور : يغفر خطيئة القلب الشاعر بالله ، حليم : لا يعجل بالعقوبة ، فلعل عبده الخاطئ أن يتوب .

وبذلك تكون الآية الكريمة قد أرشدت الناس إلى ما يقره الشرع ويرتضيه الخلق الكريم ، ونهتهم عما يتنافى مع تعاليم الإسلام ، بأسلوب حكيم جمع بين الشدة واللين ، والخوف والرجاء .

* * *