الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (234)

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } أي يُقبضون ويموتون ، وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً ، وقرأ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه بفتح الياء أي يتوفون أعمارهم وأرزاقهم وتوفى واستوفى بمعنى واحد { وَيَذَرُونَ } ويتركون { أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ } فإن قيل : فأين الخبر عن قوله { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } قيل : هو متروك فإنه لم يقصد الخبر عنهم ، وذلك جائز في الاسم يذكر ويكون تمام خبره في اسم آخر ، أن يقول الأول ويخبر عن الثاني فيكون معناه { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } كقول الشاعر :

بني أسد أنّ ابن قيس وقتله *** بغير دم دار المذلّة حلّت

فألغى ابن قيس وقد ابتدأ بذكره ، وأخبر عن قتله أنه ذلّ ، وأنشد :

لعلّي أن مالت بي الريح ميلة *** على ابن أبي ذبان أن يتندما

فقال : لعلّي ثم قال : يتندما لأن المعنى فيه عدا قول الفرّاء .

وقال الزجّاج : معناه : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } أزواجهم يتربصن بأنفسهنّ .

وقال الأخفش : خبره في قوله { يَتَرَبَّصْنَ } أي يتربصن بعدهم .

وقال قطرب : معناه ينبغي لهنّ أن يتربصن أي ينتظرن ويحتبسن بأنفسهن ، معتدّات على أزواجهن ، تاركات الطيب والزينة والأزواج والنقلة عن المسكن الذي كنّ يسكنّه في حياة أزواجهنّ أربعة أشهر وعشراً إلاّ أن يكنّ حوامل فيتربصن إلى أن يضعن حملهن ، فإذا ولدنَ انقضت عدّتهنّ .

روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها كانت تفتي للمتوفى عنها زوجها حتى تنقضي عدّتها أن لا تلبس مصبوغاً ، وتلبس البياض ولا تلبس السواد ، ولا تتزيّن ولا تلبس حليّاً ولا تكتحل بالأثمد ولا بكحل فيه طيب وإنْ وجعت عينها ، ولكنها تتحلّى بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الأثمد مما ليس فيه طيب .

وروى نافع عن زينب بنت أم سلمة أنّ امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : " إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها حتى خفت على عينها وهي تريد الكحل ، فقال عليه الصلاة والسلام : قد كانت احداكنّ تلبس أطمار ثيابها وتجلس في أخسّ بيوتها وتمكث حولا في بيتها ، فإذا كان الحول خرجت فمن كملت رمته ببعرة أفلا أربعة أشهر وعشراً " .

وروى نافع عن صفية بنت عبد الرحمن عن حفصة بنت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج ، فإنها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً " .

وقال سعيد بن المسيّب : الحكمة في هذه المدّة أن فيها ينفخ الروح في الولد ، وإنّما قال وعشراً بلفظ المؤنث لأنه أراد الليالي لأن العرب إذا أتممت العدد من الليالي والأيام غلّبت عليه الليالي فيقولون : صمنا عشراً ، والصوم لا يكون إلاّ بالنهار ، قال الشاعر :

وطافت ثلاثاً بين يوم وليلة *** وكان النكير أن يضيف ويجار

أي يخاف فاضح ، ويدلّ عليه قراءة ابن عباس : أربعة أشهر وعشر ليال ، وقال المبرّد : إنّما أنّث العشر لأنّه أراد به المدد . { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } يعني انقضاء العدّة { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يخاطب الأولياء { فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } من البر في أن يتولّوه لهنّ { بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .