{ فَرِيقًا } منكم { هَدَى } اللّه ، أي : وفقهم للهداية ، ويسر لهم أسبابها ، وصرف عنهم موانعها . { وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } أي : وجبت عليهم الضلالة بما تسببوا لأنفسهم وعملوا بأسباب الغواية .
ف { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً } فحين انسلخوا من ولاية الرحمن ، واستحبوا ولاية الشيطان ، حصل لهم النصيب الوافر من الخذلان ، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران . { وَهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } لأنهم انقلبت عليهم الحقائق ، فظنوا الباطل حقا والحق باطلا ، وفي هذه الآيات دليل على أن الأوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة ، حيث ذكر تعالى أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول ، وأنه لا يأمر إلا بالعدل والإخلاص ، وفيه دليل على أن الهداية بفضل اللّه ومَنِّه ، وأن الضلالة بخذلانه للعبد ، إذا تولى - بجهله وظلمه - الشيطانَ ، وتسبب لنفسه بالضلال ، وأن من حسب أنه مهتدٍ وهو ضالٌّ ، أنه لا عذر له ، لأنه متمكن من الهدى ، وإنما أتاه حسبانه من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى .
وقد بدأوا الرحلة فريقين : آدم وزوجه . والشيطان وقبيله . . وكذلك سيعودون . . الطائعون سيعودون فريقاً مع أبيهم آدم وأمهم حواء المسلمين المؤمنين بالله المتبعين لأمر الله . . والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله ، يملأ الله منهم جهنم ، بولائهم لإبليس وولايته لهم . وهم يحسبون أنهم مهتدون .
لقد هدى الله من جعل ولايته لله . وأضل من جعل ولايته للشيطان . . وهاهم أولاء عائدين فريقين :
( فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة . إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) . ها هم أولاء عائدين . في لمحة تضم طرفي الرحلة ! على طريقة القرآن ، التي يتعذر أن تتحقق في غير أسلوب القرآن !
وقوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل والاستقامة ، { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }
أي : أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها ، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله [ تعالى ]{[11651]} وما جاءوا به [ عنه ]{[11652]} من الشرائع ، وبالإخلاص له في عبادته ، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين : أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة ، وأن يكون خالصًا من الشرك .
وقوله تعالى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون . [ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ]{[11653]} الضَّلالَة }{[11654]} - اختلف في معنى [ قوله تعالى ]{ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } فقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } يحييكم بعد موتكم .
وقال الحسن البصري : كما بدأكم في الدنيا ، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء .
وقال قتادة : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قال : بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئًا ، ثم ذهبوا ، ثم يعيدهم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرًا .
واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير ، وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ، كلاهما عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : " يا أيها الناس ، إنكم تحشرون{[11655]} إلى الله حُفَاة عُرَاة غُرْلا { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] .
وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين ، من حديث شعبة ، وفي حديث البخاري - أيضا - من حديث الثوري به . {[11656]}
وقال وقَاء بن إياس أبو يزيد ، عن مجاهد : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قال : يبعث المسلم مسلمًا ، والكافر كافرًا .
وقال أبو العالية : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } رُدُّوا إلى علمه فيهم .
وقال سعيد بن جبير : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما كتب عليكم تكونون - وفي رواية : كما كنتم تكونون عليه تكونون .
وقال محمد بن كعب القُرَظِي في قوله تعالى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه ، وإن عمل بأعمال أهل السعادة ، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة ، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه . ومن ابتُدئ خلقه على السعادة ، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه ، إن عمل بأعمال أهل الشقاء ، كما أن السحرة عملت{[11657]} بأعمال أهل الشقاء ، ثم صاروا إلى ما ابتدئوا عليه .
وقال السُّدِّي : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ . فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } يقول : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما خلقناكم ، فريق مهتدون وفريق ضلال ، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } قال : إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا ، كما قال [ تعالى ]{[11658]} { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم{[11659]} مؤمنًا وكافرًا .
قلت : ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري " فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو : ذراع - فيسبق{[11660]} عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو : ذراع - فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخل الجنة " {[11661]}
وقال أبو القاسم البَغَوي : حدثنا علي بن الجَعْد ، حدثنا أبو غَسَّان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل الجنة ، وإنه من أهل النار . وإنه ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بالخواتيم " {[11662]}
هذا قطعة من حديث رواه البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مُطَرَّف المدني ، في قصة " قُزْمان " يوم أحد{[11663]}
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تُبْعَثُ كل نَفْسٍ على ما كانت عليه " .
وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه ، عن الأعمش ، به . ولفظه : " يبعث كل عبد على ما مات عليه " {[11664]}
قلت : ولا بد من الجمع بين هذا القول - إن كان هو المراد من الآية - وبين قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] وما جاء في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه " {[11665]} وفي صحيح مسلم ، عن عِياض بن حمَار{[11666]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حُنَفَاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم " الحديث . ووجه الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر ، في ثاني الحال ، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده ، والعلم بأنه لا إله غيره ، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق ، وجعله في غرائزهم وفطرهم ، ومع هذا قدر أن{[11667]} منهم شقيًا ومنهم سعيدًا : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] وفي الحديث : " كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمُعْتِقُهَا ، أو مُوبِقها " {[11668]} وقدر الله نافذ في بريته ، فإنه هو { الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 3 ] و { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] وفي الصحيحين : " فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة " ؛ ولهذا قال تعالى : { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } ثم علل ذلك فقال : { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ] }{[11669]}
قال ابن جرير : وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها ، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها ، فيركبها عنادًا منه لربه فيها ؛ لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد ، وفريق الهدى ، فرق . وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية [ الكريمة ]{[11670]} .
{ فريقا هدى } بأن وفقهم للإيمان . { وفريقا حق عليهم الضلالة } بمقتضى القضاء السابق . وانتصابه بفعل يفسره ما بعده أي وخذل فريقا . { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } تعليل لخذلانهم أو تحقيق لضلالهم . { ويحسبون أنهم مهتدون } يدل على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم ، وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر .