التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُۚ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ} (30)

قوله : { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } فريقا الأول ، منصوب بهدى . وفريقا الثاني ، منصوب بتقدير فعل دل عليه ما بعده . وتقديره : وأضل فريقا حق عليهم الضلالة . ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من ضمير { تعودون } وتقديره : كما بدأكم تعودون في هذه الحالة{[1374]} أو تعودون فريقا .

والناس لا محالة فريقان : أحدهما : الفريق المهتدي من عباد الله . أولئك الذين وفقهم الله للهداية والرشاد فكانوا السعداء والصالحين والناجين . وثانيهما : الفريق الضال . وهو الذي أعرض واستكبر ، ولما سمع ذكر الله وكلمة الحق والنور طغى وعتى وتجبر ، ومضى جامحا مع الفاسقين الشاردين .

على أن المراد بالهداية والإضلال ، هو الدلالة التي تنشرح بها صدور المؤمنين للاهتداء ، وتضيق بها صدور الكافرين ؛ لشدة إعراضهم عن الحق وفرط نفورهم عن صراط الله القويم .

قوله : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } الأولياء ، جمع ومفرده الولي . وهو الناصر والحليف{[1375]} . والمعنى : أن هذا الفريق الضال وهم الفاسقون والجاحدون والمعارضون عن دين الله قد لتخذوا الشياطين لهم حلفاء وأنصارا وأعوانا ليتولهم وينتصروا بهم ، كقول بعض المشركين العرب ؛ إذ يخاطبون أصنامهم الصم : أعل هبل . وذلك غاية ما تفضي السفاهة وهوان الأحلام بالإنسان ؛ إذ تفضي به إلى هاوية الضلالة وإلى الدركات السحيقة من الجهل المطبق وموات الفطرة السليمة .

وهذه حقيقة مريرة تتراءى للعيان في كل الأشقياء من أعوان الشيطان الذين تشمئز قلوبهم من ذكر الحق ومن منهج الإسلام . لكنهم يستبشرون إذا ذكر أولياؤهم من طواغيت البشر الطواغيت الباغية الشريرة الذين استحوذوا على شطر البشرية أو أكثر ، بالإضلال والإفساد والتلويث ؛ فأزاغوهم عن دين الله ، وأشربوهم الكفر والإلحاد والفساد إشرابا . فباتوا أشباحا من الأناسي المضللين المأفونين{[1376]} الذين يركضون لاهثين سراعا في خفة وذلة وصغار وراء أسيادهم الشياطين المضلين من طواغيت البشر .

قوله : { ويحسبون أنهم مهتدون } يحسبون من المحسبة والحسبان بكسر الحاء ، يعني الظن{[1377]} . هؤلاء المشركون المعاندون ، والذين عتوا عن منهج الله وعاثوا في الدنيا إضلالا وإفسادا يظنون أنهم على الهداية والرشاد ، ولم يعترفوا أنهم على الباطل والضلال . لا جرم أن هؤلاء أشد في تمردهم وكفرهم ؛ لأنهم يستندون في غيهم وضلالهم إلى حسبانهم الخاطئ وظنهم الواهم المريض ، إن هؤلاء الجاهلين السفهاء أشد عتوا واضطغانا ممن يعلم في قرارة نفسه أنه على الباطل بالرغم من كونه سادرا في غيه وظلمه{[1378]} .

إن هذه إحدى المعضلات الذهنية والنفسية المستعصية في طبائع أهل الديانات المحرفة من اليهود والنصارى وغيرهم من الوثنيين . أولئك الذين يتيهون في غياهب التعصب الذميم والجهالة الطاغية المطبقة ويتشبثون بما ورثوه عن الآباء من كتب قد خالطها التغيير والتبديل ، وصيرها التزييف والتحريف حشدا من الكلام الملفق الموهوم . الكلام المصطنع الغالي الذي يسول لصاحبه ظلم الآخرين من الناس والاعتداء عليهم بكل صور العدوان والإجرام . وهم مع ذلك يظنون واهمين أنهم ورثوا عن آبائهم حقا وصدقا ! ! والله يعلم ، أولوا العلم الصادقون من الناس يعلمون أنهم ما ورثوا من العقائد والملل والتصورات غير الضلال والأوهام والتلفيق من الكلام المتهافت الخاوي .


[1374]:البيان لابن النباري جـ 1 ص 359.
[1375]:مختار الصحاح ص 736.
[1376]:المأفون: الضعيف الرأي والعقل. انظر القاموس المحيط جـ 4 ص 198.
[1377]:مختار الصحاح ص 135.
[1378]:البيان للطيرسي جـ 4 ص 380- 385 وتفسير البغوي جـ 2 ص 154- 156 وتفسير البحر المحيط جـ 2 ص 282- 288.