الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُۚ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ} (30)

قوله تعالى : { فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ } : في نصب " فريقاً " وجهان أحدُهما : أنه منصوب بهدى بعده ، وفريقاً الثاني منصوب بإضمار فعلٍ يفسِّره قولُه { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ } من حيث المعنى ، والتقدير : وأضلَّ فريقاً حَقَّ عليهم ، وقَدَّره الزمخشري : " وخَذَل فريقاً " لغرضٍ له في ذلك . والجملتان الفعليتان في محل نصب على الحال من فاعل " بدأكم " أي : بَدَأكم حالَ كونه هادياً فريقاً ومُضِلاً آخر ، و " قد " مضمرةٌ عند بعضهم . ويجوز على هذا الوجهِ أيضاً أن تكون الجملتان الفعليتان مستأنفتَيْن ، فالوقفُ على " يعودون " على هذا الإِعرابِ تامٌّ بخلاف ما إذا جَعَلهما حالَيْن ، فالوقفُ على " يعودون " على هذا الإِعرابِ تامٌّ بخلاف ما إذا جَعَلهما حالَيْن ، فالوقفُ على قوله " الضلالة " .

الوجه الثاني : أن ينتصبَ " فريقاً " على الحال من فاعل " تَعُودون " أي : تعودون : فريقاً مَهْدِيَّاً وفريقاً حاقَّاً عليه الضلالة ، وتكون الجملتان الفعليتان على هذا في محل نصب على النعت لفريقاً وفريقاً ، ولا بد حينئذ من حَذْفِ عائد على الموصوف من هَدَى أي : فريقاً هداهم ، ولو قَدَّرْته " هداه " بلفظ الإِفراد لجاز ، اعتبار بلفظ " فريق " ، إلا أن الأحسنَ الأول لمناسبة قوله : { وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ } ، والوقف حينئذ على قوله " الضلالة " ، ويؤيد إعرابَه حالاً قراءةُ أُبَيّ بن كعب : " تعودون فريقَيْن : فريقاً هدى وفريقاً حقَّ عليهم الضلالة " ففريقَيْن نصب على الحال ، وفريقاً وفريقاً بدل أو منصوب بإضمار أعني على القطع ، ويجوز أن ينتصبَ فريقاً الأول على الحال من فاعل تعودون ، وفريقاً الثاني نصب بإضمار فعلٍ يفسِّره " حقَّ عليهم الضلالة " كما تقدم تحقيقه في كل منهما .

وهذه الأوجهُ كلُّها ذكرها ابن الأنباري فإنه قال كلاماً حسناً ، قال رحمه الله : " انتصب فريقاً وفريقاً على الحال من الضمير الذي في تعودون ، يريد : تعودون كما ابتدأ خَلْقُكم مختلفين ، بعضكم أشقياء وبعضكم سُعَداء ، فاتصل " فريق " وهو نكرةٌ بالضمير الذي في " تعودون " وهو معرفة فقُطِع عن لفظه ، وعُطِف الثاني عليه " . قال : " ويجوز أن يكونَ الأول منصوباً على الحال من الضمير ، والثاني منصوب بحقَّ عليهم الضلالة ، لأنه بمعنى أضلَّهم كما يقول القائل : " عبد الله أكرمته وزيداً أحسنت إليه " فينتصب زيداً بأحسنت إليه بمعنى نَفَعْته ، وأنشد :

أثعلبةَ الفوارسِ أم رِياحا *** عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا

نصب ثعلبة ب " عَدَلْتَ بهم طهية " لأنه بمعنى أَهَنْتَهم أي : عَدَلْت بهم مَنْ هو دونَهم ، وأنشد أيضاً قوله :

يا ليت ضيفَكمُ الزبيرَ وجارَكم *** إيايَ لبَّس حبلَه بحبالي

فنصب " إياي " بقوله : " لَبَّس حبله بحبالي ، إذ كان معناه " خالطني وقصدني " قلت : يريد بذلك أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر من معنى الثاني لا من لفظه ، هذا وجهُ التنظير . وإلى كون " فريقاً " منصوباً ب " هدى " و " فريقاً " منصوباً ب " حَقَّ " ذهب الفراء ، وجَعَلَه نظيرَ قوله تعالى :

{ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الإنسان : 31 ] .

وقوله : { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا } جارٍ مَجْرى التعليل وإن كان استئنافاً لفظاً ، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عيسى بن عمر والعباس بن الفضل وسهل بن شعيب " أنهم " بفتح الهمزة وهي نصٌّ في العِلِّيَّة أي : حَقَّتْ عليهم الضلالة لاتِّخاذهم الشياطينَ أولياءَ ، ولم يُسْند الإِضلال إلى ذاته المقدسة وإن كان هو الفاعلَ لها تحسيناً للفظ وتعليماً لعباده الأدبَ ، وعليه : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ } [ النحل : 9 ] .