قوله تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } الآية . اختلفوا فيه ، قال ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء . وقال مجاهد : بلعام بن باعور . وقال عطية عن ابن عباس : كان من بني إسرائيل ، وروي عن علي بن أبي طلحة رضي الله عنه : أنه كان من الكنعانيين ، من مدينة الجبارين . وقال مقاتل : هو من مدينة بلقا . وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس ، وابن إسحاق ، والسدي ، وغيرهم : أن موسى لم قصد حرب الجبارين ، ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام ، أتي قوم بلعم إلى بلعم وكان عنده اسم الله الأعظم فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جند كثير ، وأنه جاء يخرجنا من بلادنا ، ويقتلنا ، ويحلها بني إسرائيل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله أن يردهم عنا ؟ فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون ، كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم ؟ وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ، فراجعوه وألحوا عليه فقال : حتى أؤامر ربي ، وكان لا يدعوه حتى ينظر ما يؤمر به في المنام ، فآمر في الدعاء عليهم ، فقيل له في المنام : لا تدع عليهم ، فقال لقومه : إني قد آمرت ربي ، وإني قد نهيت ، فأهدوا إليه هدية فقبلها ، ثم راجعوه فقال : حتى أؤامر ربي ، فآمر فلم يوح إليه شيء ، فقال : قد أمرت ، فلم يوح إلي شيء ، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى ، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن ، فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على معسكر بني إسرائيل يقال له حسبان ، فلما سار عليها غير كثير ربضت به ، فنزل عنها ، فضربها ، حتى إذا أذلقها قامت ، فركبها ، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت ، ففعل بها مثل ذلك ، فقامت ، فركبها ، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت ، وضربها حتى أذلقها ، أذن الله لها بالكلام ، فكلمته حجةً عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب بي ؟ ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا ؟ أتذهب بي إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم ؟ فلم ينزع ، فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان جعل يدعو عليهم ، ولا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل ، فقال له قومه : يا بلعم أتدري ماذا تصنع ؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا ؟ فقال : هذا ما لا أملكه ، هذا شيء قد غلب الله عليه ، فاندلع لسانه ، فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة ، فلم يبق إلا المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، جملوا النساء ، وزينوهن ، وأعطوهن السلع ، ثم أرسلوهن إلى المعسكر يبعنها فيه ، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زنا رجل واحد منهم كفيتموهم ، ففعلوا ، فلما دخل النساء المعسكر مرت امرأة من الكنعانيين ، اسمها كستى بنت صور ، برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب ، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى ، فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك ؟ قال : أجل ، هي حرام عليك ، لا تقربها ، قال : فوالله لا أطيعك في هذا ، ثم دخل بها قبته ، فوقع عليها ، فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت ، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى ، وكان رجلاً قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش ، وكان غائباً حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع ، فجاء والطاعون يجوس بني إسرائيل ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ، ثم دخل عليهما القبة ، وهما متضاجعان ، فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه ، واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لحيته ، وكان بكر العيزار ، وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ، ورفع الطاعون ، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون في ما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار ، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الفشة ، والذراع ، واللحى ، لاعتماده بالحربة على خاصرته ، وأخذه إياها بذراعه ، وإسناده إياها إلى لحيته ، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم ، لأنه كان بكر العيزار ، وفي بلعم أنزل الله تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } الآية . وقال مقاتل : إن ملك البلقاء قال لبلعام : ادع الله على موسى ، فقال : إنه من أهل ديني ، لا أدعو عليه ، فنحت خشبة ليصلبه ، فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه ، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها ، فقالت : لم تضربني ؟ إني مأمورة ، وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي ، فرجع فأخبر الملك فقال : لتدعون عليه ، أو لأصلبنك ، فدعا على موسى بالاسم الأعظم : أن لا يدخل المدينة ، فاستجيب له ، ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه ، فقال موسى : يا رب ، بأي ذنب وقعنا في التيه ؟ فقال : بدعاء بلعام ، قال : فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه ، فدعا موسى عليه السلام أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان ، فنزع الله عنه المعرفة ، وسلخه منها ، فخرجت منه صورة كحمامة بيضاء ، فذلك قوله : { فانسلخ منها } .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم ، وليث بن أسعد : نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وكانت قصته : أنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً ، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم حسده ، وكفر به ، وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة ، وكان قصد بعض الملوك ، فلما رجع مر على قتلى بدر ، فسأل عنهم فقيل : قتلهم محمد ، فقال : لو كان نبياً ما قتل أقرباءه . فلما مات أمية أتت أخته فازعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها ، فقالت : بينما هو راقد أتاه آتيان ، فكشفا سقف البيت ، فنزلا ، فقعد أحدهما عند رجليه ، والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : أوعى ؟ قال : وعى ، قال : أزكى ؟ قال : أبى ، قالت : فسألته عن ذلك فقال : خير أريد بي ، فصرف عني فغشي عليه ، فما أفاق قال شعرا :
كل عيش وإن تطاول دهراً *** صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي *** في قلال الجبار أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم *** شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً
ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشديني من شعر أخيك ، فأنشدته بعض قصائده ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمن شعره ، وكفر قلبه فأنزل الله عز وجل : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } الآية .
وفي رواية عن ابن عباس : أنها نزلت في البسوس ، رجل من بني إسرائيل ، وكان قد أعطي له ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها دعوة ، فقال : لك منها واحدة ، فما تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا لها فجعلت أجمل النساء في بني إسرائيل ، فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، فغضب الزوج ودعا عليها ، فصارت كلبةً نباحة ، فذهبت فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة نباحة ، والناس يعيروننا بها ، ادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ؟ فدعا الله فعادت كما كانت ، فذهبت فيها الدعوات كلها . والقولان الأولان أظهر .
وقال الحسن بن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله ، فذلك قوله : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } قال ابن عباس والسدي : اسم الله الأعظم . قال ابن زيد : كان لا يسأل شيئاً إلا أعطاه . وقال ابن عباس في رواية أخرى : أوتي كتاباً من كتب الله فانسلخ ، أي : خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها .
175-178 وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا أي : علمناه كتاب اللّه ، فصار العالم الكبير والحبر النحرير .
فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي : انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه ، فإن العلم بذلك ، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات ، فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره ، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب ، وخلعها كما يخلع اللباس .
فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان ، أي : تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين ، وصار إلى أسفل سافلين ، فأزه إلى المعاصي أزا .
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ بعد أن كان من الراشدين المرشدين .
وهذا لأن اللّه تعالى خذله ووكله إلى نفسه ، فلهذا قال تعالى : وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
وكمثل للانحراف عن سواء الفطرة ، ونقض لعهد الله المأخوذ عليها ، ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها . . ذلك الذي آتاه الله آياته ، فكانت في متناول نظره وفكره ؛ ولكنه انسلخ منها ، وتعرى عنها ولصق بالأرض ، واتبع الهوى ؛ فلم يستمسك بالميثاق الأول ، ولا بالآيات الهادية ؛ فاستولى عليه الشيطان ؛ وأمسى مطروداً من حمى الله ، لا يهدأ ولا يطمئن ولا يسكن إلى قرار .
ولكن البيان القرآني المعجز لا يصوغ المثل هذه الصياغة ! إنما يصوره في مشهد حي متحرك ، عنيف الحركة ، شاخص السمات ، بارز الملامح ، واضح الانفعالات ؛ يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعة ، إلى جانب إيقاعات العبارة الموحية :
( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان ، فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب . . إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث . . ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ! ) . .
إنه مشهد من المشاهد العجيبة ، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات . . إنسان يؤتيه الله آياته ، ويخلع عليه من فضله ، ويكسوه من علمه ، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع . . ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً . ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه ؛ فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة ، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه . . أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان ؟ . . ها هو ذا ينسلخ من آيات الله ؛ ويتجرد من الغطاء الواقي ، والدرع الحامي ؛ وينحرف عن الهدي ليتبع الهوى ؛ ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم ؛ فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واق ، ولا يحميه منه حام ؛ فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه . .
قال عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن الأعمش ومنصور ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، في قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ ] }{[12369]} الآية ، قال : هو رجل من بني إسرائيل ، يقال له : بَلْعم بن أبَرَ . وكذا رواه شعبة وغير واحد ، عن منصور ، به .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12370]} هو صيفي بن الراهب .
قال قتادة : وقال كعب : كان رجلا من أهل البلقاء ، وكان يعلم الاسم الأكبر ، وكان مقيما ببيت{[12371]} المقدس مع الجبارين .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12372]} هو رجل من أهل اليمن ، يقال له : بَلْعَم ، آتاه الله آياته فتركها .
وقال مالك بن دينار : كان من علماء بني إسرائيل ، وكان مجاب الدعوة ، يقدمونه في الشدائد ، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مَدْين يدعوه إلى الله ، فأقطعه وأعطاه ، فتبع دينه وترك دين موسى ، عليه السلام .
وقال سفيان بن عيينة ، عن حُصَين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12373]} هو بلعم بن باعر . وكذا قال مجاهد وعكرمة .
وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12374]} قال : هو بلعام - وقالت ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت .
وقال شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما ]{[12375]} في قوله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ [ آيَاتِنَا ] }{[12376]} قال : هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت .
وقد روي من غير وجه ، عنه وهو صحيح إليه ، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه ، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ، ولكنه لم ينتفع بعلمه ، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته ، وظهرت لكل من له بصيرة ، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه ، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة ، قبحه الله [ تعالى ]{[12377]} {[12378]} وقد جاء في بعض الأحاديث : " أنه ممن آمن لسانه ، ولم يؤمن قلبه " ؛ فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة ، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } قال : هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها واحدة . قال : فلك واحدة ، فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل . فدعا الله ، فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فلما علمت أن{[12379]} ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، وأرادت شيئًا آخر ، فدعا الله أن يجعلها كلبة ، فصارت كلبة ، فذهبت دعوتان . فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله ، فعادت كما كانت ، فذهبت الدعوات الثلاث ، وسميت البسوس . {[12380]} غريب .
وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة ، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل ، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو رجل من مدينة الجبارين ، يقال له : " بلعام " {[12381]} وكان يعلم اسم الله الأكبر .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيره من علماء السلف : كان [ رجلا ]{[12382]} مجاب الدعوة ، ولا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه .
وأغرب ، بل أبعد ، بل أخطأ من قال : كان قد{[12383]} أوتي النبوة فانسلخ منها . حكاه ابن جرير ، عن بعضهم ، ولا يصح{[12384]}
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما نزل موسى بهم - يعني بالجبارين - ومن معه ، أتاه يعني بلعام{[12385]} - أتاه بنو عمه وقومه ، فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا ، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه . قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ، ذهبت دنياي وآخرتي . فلم يزالوا به حتى دعا عليهم ، فسلخه الله ما كان عليه ، فذلك قوله تعالى : { فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ [ مِنَ الْغَاوِينَ ] }{[12386]}
وقال السدي : إن الله لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [ المائدة : 26 ] بعث يوشع بن نون نبيا ، فدعا بني إسرائيل ، فأخبرهم أنه نبي ، وأن الله [ قد ]{[12387]} أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدقوه . وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له : " بلعم " وكان عالمًا ، يعلم الاسم الأعظم المكتوم ، فكفر - لعنه الله - وأتى الجبارين وقال لهم : لا ترهبوا بني إسرائيل ، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون ! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا ، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء ، يعظمهن{[12388]} فكان ينكح أتانا له ، وهو الذي قال الله تعالى{[12389]} { فَانْسَلَخَ مِنْهَا }
وقوله : { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } أي : استحوذ عليه وغلبه على أمره ، فمهما أمره امتثل وأطاعه ؛ ولهذا قال : { فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } أي : من الهالكين الحائرين{[12390]} البائرين .
وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا محمد بن بكر ، عن الصلت بن بَهْرام ، حدثنا الحسن ، حدثنا جُنْدُب البجلي في هذا المسجد ؛ أن حذيفة - يعني بن اليمان ، رضي الله عنه - حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مما أتخوف عليكم رجُل قرأ القرآن ، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رِدْء الإسلام اعتراه{[12391]} إلى ما شاء الله ، انسلخ منه ، ونبذه وراء ظهره ، وسعى على جاره بالسيف ، ورماه بالشرك " . قال : قلت : يا نبي الله ، أيهما أولى بالشرك : المرمي أو الرامي ؟ قال : " بل الرامي " .
هذا إسناد جيد{[12392]} والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين ، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء ، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وغيرهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واتل يا محمد على قومك نبأ الذي آتيناه آياتنا ، يعني خبره وقصته . وكانت آيات الله للذي آتاه الله إياها فيما يقال اسم الله الأعظم ، وقيل النبوّة .
واختلف أهل التأويل فيه ، فقال بعضهم : هو رجل من بني إسرائيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله في هذه الاَية : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو بلعم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، مثله .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : هو بلعم بن أَبر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، في قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا قال : رجل من بني إسرائيل يقال له : بلعم بن أبر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وابن مهدي وابن أبي عديّ ، قالوا : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، أنه قال في هذه الاَية ، فذكر مثله ، ولم يقل ابن أبر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : رجل من بني إسرائيل يقال له : بلعم بن أبر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن عمران بن الحرث ، عن ابن عباس ، قال : هو بلعم بن باعرا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، في قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا . . . إلى : فَكانَ مِنَ الغاوينَ هو بلعم بن أبر .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن الأعمش ، عن منصور عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، مثله ، إلاّ أنه قال ابن أبُر ، بضم الباء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فانْسَلَخَ مِنْها قال : بَلعام بن باعرا ، من بني إسرائيل .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول ، فذكر مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول ، فذكر مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن وابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن حصين ، عن عكرمة ، قال في الذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو بلعام .
وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن حصين ، عن عكرمة ، قال : هو بلعم .
قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن عكرمة ، قال : هو بلعم .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حصين ، قال : سمعت عكرمة يقول : هو بَلعام .
حدثنا قال : حدثنا عبد العزيزي ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن حصين ، عن مجاهد ، قال : هو بلعم .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : هو بلعم . ( وقالت ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت ) .
وقال آخرون : كان بلعم هذا من أهل اليمن . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن .
وقال آخرون : كان من الكنعانيين . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم .
وقال آخرون : هو أمية بن أبي الصلت . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سعيد بن السائب ، عن غضيف بن أبي سفيان ، عن يعقوب ونافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو ، قال في هذه الاَية : الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو أمية بن أبي الصلت .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، قال : أنبأنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، قال : قال عبد الله بن عمرو : هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ووهب بن جرير ، قالا : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو بمثله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن رجل ، عن عبد الله بن عمرو : ولَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض وَاتّبَعَ هَوَاهُ قال : هو أمية بن أبي الصلت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، قال : سمعت نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو ، قال في هذه الاَية : الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو صاحبكم ، يعني أمية بن أبي الصلت .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن حبيب ، عن رجل عن عبد الله بن عمرو ، قال : هو أمية بن أبي الصلت .
قال : حدثنا يزيد ، عن شريك ، عن عبد الملك ، عن فضالة ، أو ابن فضالة ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : هو أمية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : تذاكروا في جامع دمشق هذه الاَية : فانْسَلَخَ مِنْها فقال بعضهم : نزلت في بلعم بن باعوراء ، وقال بعضهم : نزلت في الراهب . فخرج عليهم عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقالوا : فيمن نزلت هذه ؟ قال : نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي : الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو أمية بن أبي الصلت ، وقال قتادة : يشكّ فيه ، يقول بعضهم : بلعم ، ويقول بعضهم : أمية بن أبي الصلت .
واختلف أهل التأويل في الاَيات التي كان أوتيها التي قال جلّ ثناؤه : آتَيْناهُ آياتِنا فقال بعضهم : كانت اسم الله الأعظم . ذكر من قال ذلك .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : إن الله لما انقضت الأربعون سنة ، يعني التي قال الله فيها : إنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً بعث يُوشَعَ بن نون نبيا ، فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبيّ وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدّقوه . وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم ، وكان عالما يعلم الاسم الأعظم المكتوم ، فكفر وأتى الجبارين ، فقال : لا ترهبوا بني إسرائيل ، فاني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون وكان عندهم فيما شاء من الدنيا ، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء يعظمهن ، فكان ينكح أتانا له ، وهو الذي يقول الله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها : أي تنصل فانسلخ منها ، إلى قوله : وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا قال : هو رجل يقال له : بلعم ، وكان يعلم اسم الله الأعظم .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : كان لا يسأل الله شيئا إلاّ أعطاه .
وقال آخرون : بل الاَيات التي كان أوتيها كتاب من كتب الله . ذكر من قال ذلك .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان في بني إسرائيل بَلعام بن باعر أوتي كتابا .
وقال آخرون : بل كان أوتي النبوّة . ذكر من قال ذلك .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن غيره ، قال : الحارث قال : عبد العزيز يعني عن غير نفسه عن مجاهد ، قال : هو نبيّ في بني إسرائيل ، يعني بَلعم ، أوتي النبوّة ، فرشاه قومه على أن يسكت ، ففعل وتركهم على ما هم عليه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، أنه سئل عن الاَية : وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبأَ الّذي آتَيْناهُ آياتنا فانْسَلَخَ مِنْها فحدّث عن سيّار أنه كان رجلاً يقال له بَلْعَام ، وكان قد أوتي النبوّة ، وكان مجاب الدعوة .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبر رجل كان الله آتاه حججه وأدلته ، وهي الاَيات .
وقد دللنا على أن معنى الاَيات الأدلة والأعلام فيما مضى بما أغنى عن إعادته ، وجائز أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك بلعم ، وجائز أن يكون أمية ، وكذلك الاَيات إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه ، فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الاَية ، وعناه بها فجائز أن يكون الذي كان أوتيها بلعم ، وجائز أن يكون أمية ، لأن أمية كان فيما يقال قد قرأ من كتب أهل الكتاب ، وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على من أمر نبيّ الله عليه الصلاة والسلام أن يتلو على قومه نبأه أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوّة ، فغير جائز أن يكون معنيا به أمية لأن أمية لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئا من ذلك . ولا خبر بأيّ ذلك المراد وأيّ الرجلين المعنيّ يوجب الحجة ولا في العقل دلالة على أن ذلك المعنيّ به من أيّ . فالصواب أن يقال فيه ما قال الله ، ويقرّ بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله .
وأما قوله : فانْسَلَخَ مِنْها فإنه يعني : خرج من الاَيات التي كان الله آتاها إياه ، فتبرأ منها .
وبنحو ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : لما نزل موسى عليه السلام يعني بالجبارين ومن معه آتاه يعني بلعم بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا . فادع الله أن يردّ عنا موسى ومن معه قال : إني إن دعوت الله أن يردّ موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي . فلم يزالوا به حتى دعا عليهم ، فسلخه الله مما كان عليه ، فذلك قوله : فانْسَلَخَ مِنْها فَأتْبَعَهُ الشّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : كان الله آتاه آياته فتركها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : فانْسَلَخَ مِنْها قال : نزع منه العلم .
وقوله : فَأتْبَعَهُ الشّيْطانُ يقول : فصيره لنفسه تابعا ينتهي إلى أمره في معصية الله ، ويخالف أمر ربه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن . وقوله : فَكانَ مِنَ الغاوينَ يقول : فكان من الهالكين لضلاله وخلافه أمرَ ربه وطاعة الشيطان .
{ واتل عليهم } أي على اليهود . { نبأ الذي آتيناه آياتنا } هو أحد علماء بني إسرائيل ، أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان ، ورجا أن يكون هو فلما بعث محمد عليه السلام حسده وكفر به ، أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله ، { فانسلخ منها } من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها . { فأتبعه الشيطان } حتى لحقه وقيل استتبعه . { فكان من الغاووين } فصار من الضالين . روي أن قومه سألوه أن يدعو على موسى ومن معه فقال : كيف أدعو على من معه الملائكة ، فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه .
وقوله تعالى : { واتل عليهم } الآية { اتل } معناه قص واسرد ، والضمير في { عليهم } عائد على حاضري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار وغيرهم ، واختلف المتأولون في الذي أوتي الآيات ، فقال عبد الله بن مسعود وغيره : هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين داعياً إلى الله تعالى وإلى الشريعة وعلمه من آيات الله ما يمكن أن يدعو به وإليه ، فلما وصل رشاه الملك وأعطاه على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ، ففعل وفتن الملك به الناس وأضلهم ، وقال ابن عباس : هو رجل من الكنعانيين الجبارين اسمه بلعم ، وقيل بلعام بن عابر ، وقيل ابن آبر ، وقيل غير هذا مما ذكره تطويل ، وكان في جملة الجبارين الذي غزاهم موسى عليه السلام ، فلما قرب منهم موسى لجؤوا إلى بلعام وكان صالحاً مستجاب الدعوة ، وقيل كان عنده علم من صحف إبراهيم ونحوها ، وقال مجاهد كان رشح للنبوءة وأعطيها فرشاه قومه على أن يسكت ففعل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود لا يصح عن مجاهد ، ومن أعطي النبوءة فقد أعطي العصمة ولا بد ، ثبت هذا بالشرع ، وقد نص معنى ما قلته أبو المعالي في كتاب الشامل ، وقيل كان يعلم اسم الله الأعظم ، قاله ابن عباس أيضاً ، وهذا الخلاف في المراد بقوله : { آياتنا } ، فقال له قومه ادع الله تعالى على موسى وعسكره ، فقال لهم وكيف أدعوا على نبي مرسل ، فما زالوا به حتى فتنوه فخرج حتى أشرف على جبل يرى منه عسكر موسى ، وكان قد قال لقومه : لا أفعل حتى أستأمر ربي ففعل فنهي عن ذلك ، فقال لهم قد نهيت ، فما زالوا به ، قال :أستأمر ربي ثانية ففعل فسكت عنه فأخبرهم فقالوا له إن الله لم يدع نهيك إلا وقد أراد ذلك ، فخرج ، فلما أشرف على العسكر جعل يدعو على موسى فتحول لسانه بالدعاء لموسى والدعاء على قومه ، فقالوا له ما تقول ؟ فقال إني لا أملك إلا هذا وعلم أنه قد أخطأ ، فروي أنه خرج لسانه على صدره ، فقال لقومه إني قد هلكت ولكن لم تبق لكم إلا الحيلة فأخرجوا النساء إلى عسكر موسى على جهة التجرد وغيره وُمروهن ألا تمتنع امرأة من رجل فإنهم إذا زنوا هلكوا ، ففعلوا فخرج النساء فزنى بهن رجال بني إسرائيل ، وجاء فنحاص بن العيزار بن هارون ، فانتظم برمحه امرأة ورجلاً من بني إسرائيل ، ورفعهما على أعلى الرمح فوقع في بني إسرائيل الطاعون فمات منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً ، ثم ذكر المعتز عن أبيه أن موسى عليه السلام قتل بعد ذلك الرجل المنسلخ من آيات الله ، قال المهدوي : روي أنه دعا على موسى أن لا يدخل مدينة الجبارين فأجيب ، ودعا عليه موسى صلى الله عليه وسلم أن ينسى اسم الله الأعظم فأجيب قال الزجّاج : وقيل إن الإشارة إلى منافقي أهل الكتاب .
قال القاضي أبو محمد : وصواب هذا أن يقال إلى كفار أهل الكتاب لأنه لم يكن منهم منافق إنما كانوا مجاهرين ، وفي هذه القصة روايات كثيرة اختصرتها لتعذر صحتها واقتصرت منها على ما يخص ألفاظ الآية ، وقالت فرقة : المشار إليه في الآية رجل كان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات فترك أن يدعو بها في مصالح العباد فدعا بواحدة أن ترجع امرأته أجمل النساء ، فكان ذلك ، فلما رأت نفسها كذلك أبغضته واحتقرته فدعا عليها ثانية فمسخت كلبة ، فشفع لها بنوها عنده فدعا لها الثالثة فعادت كما كانت ، ثم انصرفت إلى حالها فذهبت الدعوات . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : المشار إليه في الآية أمية بن أبي الصلت ، وكان قد أوتي علماً ، وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه فقال من قتل هؤلاء ؟ فقيل محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء ، فارتد ورجع ، وقال : الآن حلت لي الخمر ، وكان قد حرمها على نفسه ، فمر حتى لحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات ، و { انسلخ } عبارة عن البراءة منها والانفصال والبعد كالسلخ من الثياب ، والجلد و { أتبعه } صيره تابعاً كذا قال الطبري إما لضلالة رسمها له وإما لنفسه ، وقرأ الجمهور «فأتبعه » بقطع الألف وسكون التاء ، وهي راجحة لأنها تتضمن أنه لحقه وصار معه ، وكذلك { فأتبعه شهاب } و { فأتبعهم فرعون } وقرأ الحسن فيما روى عنه هارون «فاتّبعه » بصلة الألف وشد التاء وكذلك طلحة بن مصرف بخلاف ، وكذلك الخلاف عن الحسن على معنى لازمه «اتبعه » بالإغواء حتى أغواه ، و { من الغاوين } أي من الضالين .
أعقب ما يُفيد أن التوحيد جعل في الفطرة بذكر حالة اهتداء بعض الناس إلى نبذ الشرك في مبدأ أمره ثم تعرّض وساوس الشيطان له بتحسين الشرك .
ومناسبتُها للتي قبلها إشارة العبرة من حال أحد الذين أخذ الله عليهم العهد بالتوحيد والامتثال لأمر الله ، وأمده الله بعلم يعينه على الوفاء بما عاهد الله عليه في الفطرة ، ثم لم ينفعه ذلك كله حين لم يقدر الله له الهدى المستمر .
وشأن القصص المفتتحة بقوله : { واتل عليهم } أن يقصد منها وعظ المشركين بصاحب القصة بقرينة قوله : { ذلك مثل القوم } الخ ، ويحصل من ذلك أيضاً تعليم مثل قوله : { واتل عليهم نبأ نوحٍ } [ يونس : 71 ] { واتل عليهم نبأ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] { نَتْلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق } [ القصص : 3 ] ونظائر ذلك ، فضمير { عليهم } راجع إلى المشركين الذين وجهت إليهم العبر والمواعظ من أول هذه السورة ، وقصت عليهم قصص الأمم مع رسلهم ، على أن توجيه ضمائر الغيبة إليهم أسلوب متبع في مواقع كثيرة من القرآن ، كما قدّمناه غير مرة ، فهذا من قبيل رد العجُز على الصدر .
ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قوماً تغلب عليهم الأمية فأراد الله أن يبلّغ إليهم من التعليم ما يُساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة ، فالضمير المجرور ب ( على ) عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون ، وكثيراً ما يجيء ضمير جمع الغائب في القرآن مراداً به المشركون كقوله : { عم يتساءلون } [ النبأ : 1 ] .
وظاهر اسم الموصول المفرد أن صاحب الصلة واحد معيّن ، وأن مضمون الصلة حال من أحواله التي عرف بها ، والأقرب أن يكون صاحب هذا النبأ ممّن للعرب إلمام بمجمل خبره .
فقيل المعنى به أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وروي هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، بأسانيد كثيرة عند الطبري ، وعن زيد بن أسلم ، وقال القرطبي في « التفسير » هو الأشهر ، وهو قول الأكثر ذلك أن أمية بن أبي الصلت الثقفي كان ممن أراد اتباع دين غير الشرك طالباً دين الحق ، ونظر في التوراة والإنجيل فلم ير النجاة في اليهودية ولا النصرانية ، وتزهّد وتوخّى الحنيفية دينَ إبراهيم ، وأخبر أن الله يبعث نبيّاً في العرب ، فطمع أن يكونَه ، ورفض عبادة الأصنام ، وحرم الخمر ، وذكر في شعره أخباراً من قصص التوراة ، ويروى أنه كانت له إلهامات ومكاشفات وكان يقول :
كُل دين يومَ القيامة عند *** اللَّه إلا دين الحنيفيةُ زُورُ
وله شعر كثير في أمورٍ إلآهية ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أسف أن لم يكن هو الرسول المبعوث في العرب ، وقد اتفق أن خرج إلى البحرين قبل البعثة وأقام هنالك ثمان سنين ثم رجع إلى مكة فوجد البعثة ، وتردد في الإسلام ، ثم خرج إلى الشام ورجع بعد وقعة بدر فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حسداً ، ورثى من قُتل من المشركين يومَ بدر ، وخرج إلى الطائف بلاد قومه فمات كافراً .
وكان يذكر في شعره الثواب والعقاب واسم الله وأسماء الأنبياء ، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم " كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم " وروي عن أمية أنه قال لما مرِض مَرض موته « أنا أعلم أن الحنيفية حق ، ولكن الشك يداخلني في محمد » .
فمعنى { آتيناه آياتنا } أن الله ألهم أمية كراهية الشرك ، وألقى في نفسه طلب الحق ، ويسّر له قراءة كتب الأنبياء ، وحّبب إليه الحنيفية ، فلما انفتح له باب الهدى وأشرق نور الدعوة المحمدية كابَر وحسَد وأعرض عن الإسلام ، فلا جرم أن كانت حاله أنه انسلخ عن جميع ما يُسر له ، ولم ينتفع به عند إبان الانتفاع ، فكان الشيطان هو الذي صرفه عن الهدى فكان من الغاوين ، إذ مات على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقال سعيد بن المسيب نزلت في أبي عامر بن صيفي الراهب ، واسمه النعمان الخزرجي ، وكان يلقب بالراهب في الجاهلية لأنه قد تنصّر في الجاهلية ، ولبس المسوح وزعم أنه على الحنيفية ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « يا محمد ما الذي جئت به قال جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال فإني عليها فقال النبي لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها » فكفر وخرج إلى مكة يحرّض المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج معهم ، إلى أن قاتل في حُنين بعد فتح مكة ، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج إلى الشام فمات هنالك .
وذهب كثير من المفسرين إلى أنها نزلت في رجل من الكنعانيين ، وكان في زمن موسى عليه السلام يقال له : بلعام بن باعُور ، وذكروا قصته فخلطوها وغيروها واختلفُوا فيها ، والتحقيق أن بلعام هذا كان من صالحي أهل مَدْيَن وعرّافيهم في زمن مرور بني إسرائيل على أرض ( مُؤاب ) ولكنه لم يتغير عن حال الصلاح ، وذلك مذكور في سفر العدد من التوراة في الاصحاحات 22- 23- 24 فلا ينبغي الإلتفات إلى هذا القول لاضطرابه واختلاطه .
والإيتاء هنا مستعار للإطْلاَع وتيسير العلم مثل قوله { وآتاه الله الملك والحكمة } [ البقرة : 251 ] .
و« الآيات » دلائل الوحدانية التي كرّهت إليه الشرك وبعثته على تطلب الحنيفية بالنسبة لأمية بن أبي الصلت ، أو دلائل الإنجيل على صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة للراهب أبي عامر بن صيفي .
والانسلاخ حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يُسلخ عنه جلده ، والسلخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده ، واستعير في الآية للانفصال المعنوي ، وهو ترك التلبس بالشيء أو عدم العمل به ، ومعنى الانسلاخ عن الآيات الإقلاع عن العمل بما تقتضيه ، وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية .
وأتْبعهُ بهمزة قطع وسكون المثناة الفوقيه بمعنى لحقة غير مُفلت كقوله : { فأتبعه شهابٌ ثاقب } [ الصافات : 10 ] { فأتبعهم فرعون بجنوده } [ طه : 78 ] وهذا أخص من اتّبعه بتشديد المثناة ووصل الهمزة .
والمراد بالغاوين : المتصفين بالغي وهو الضلال { فكان من الغاوين } أشد مبالغة في الاتصاف بالغواية من أن يقال : وغوى أو كان غاوياً ، كما تقدم عند قوله تعالى : { قد ضَلَلْت إذاً وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ) .
ورتبت أفعال الانسلاخ والاتباع والكون من الغاوين بفاء العطف على حسب ترتيبها في الحصول ، فإنه لما عاند ولم يعمل بما هداه الله إليه حصلت في نفسه ظلمة شيطانية مكنت الشيطان من استخدامه وإدامة إضلاله ، فالانسلاخ على الآيات أثرٌ من وسوسة الشيطان ، وإذا أطاع المرء الوسوسة تمكن الشيطان من مقاده ، فسخره وأدام إضلاله ، وهو المعبر عنه ب{ أتبعه } فصار بذلك في زُمرة الغواة المتمكنين من الغواية .