معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

قوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } . أي فرغتم من حجكم ، وذبحتم مناسككم ، أي ذبائحكم ، يقال : نسك الرجل ينسك نسكا إذا ذبح نسيكته ، وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى .

قوله تعالى : { فاذكروا الله } . بالتكبير والتحميد والثناء عليه .

قوله تعالى : { كذكركم آباءكم } . وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت عند البيت فذكرت مفاخر آبائها ، فأمرهم الله تعالى بذكره وقال : فاذكروني فأني الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم وإليهم . قال ابن عباس وعطاء : معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء ، وذلك أن الصبي أول ما يتكلم يلهج بذكر أبيه ، لا بذكر غيره ، فيقول الله : فاذكروا الله لا غير كذكر الصبي أباه .

قوله تعالى : { أو أشد ذكرا } . وسئل ابن عباس عن قوله : ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم ) فقيل : قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه ؟ قال ابن عباس : ليس كذلك ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما ، وقوله تعالى ( أو أشد ذكراً ) يعني : بل وأشد ، أي وأكبر ذكراً .

قوله تعالى : { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } . أراد به المشركين كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا يقولون : اللهم أعطنا غنماً وإبلاً وبقراً وعبيداً ، وكان الرجل يقوم فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة ، كبير الجفنة ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيته .

قال قتادة : هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ، ولها عمل ونصب .

قوله تعالى : { وما له في الآخرة من خلاق } . من حظ ونصيب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق ، وأن الجميع يسألونه مطالبهم ، ويستدفعونه ما يضرهم ، ولكن مقاصدهم تختلف ، فمنهم : { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي : يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته ، وليس له في الآخرة من نصيب ، لرغبته عنها ، وقصر همته على الدنيا ، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين ، ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه ، وكل من هؤلاء وهؤلاء ، لهم نصيب من كسبهم وعملهم ، وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم ، وهماتهم ونياتهم ، جزاء دائرا بين العدل والفضل ، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه ، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع ، مسلما أو كافرا ، أو فاسقا ، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه ، دليلا على محبته له وقربه منه ، إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين .

والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد ، من رزق هنيء واسع حلال ، وزوجة صالحة ، وولد تقر به العين ، وراحة ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ونحو ذلك ، من المطالب المحبوبة والمباحة .

وحسنة الآخرة ، هي السلامة من العقوبات ، في القبر ، والموقف ، والنار ، وحصول رضا الله ، والفوز بالنعيم المقيم ، والقرب من الرب الرحيم ، فصار هذا الدعاء ، أجمع دعاء وأكمله ، وأولاه بالإيثار ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به ، والحث عليه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

189

( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا . فمن الناس من يقول : ربنا آتنا في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق . ومنهم من يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار . أولئك لهم نصيب مما كسبوا ، والله سريع الحساب ) . .

ولقد سبق أنهم كانوا يأتون أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز . . وهذه الأسواق لم تكن أسواق بيع وشراء فحسب ؛ إنما كانت كذلك أسواق كلام ومفاخرات بالآباء ومعاظمات بالأنساب . . ذلك حين لم يكن للعرب من الإهتمامات الكبيرة ما يشغلهم عن هذه المفاخرات والمعاظمات ! لم تكن لهم رسالة إنسانية بعد ينفقون فيها طاقة القول وطاقة العمل . فرسالتهم الإنسانية الوحيدة هي التي ناطهم بها الإسلام . فأما قبل الإسلام وبدون الإسلام فلا رسالة لهم في الأرض ، ولا ذكر لهم في السماء . . ومن ثم كانوا ينفقون أيام عكاظ ومجنة وذي المجاز في تلك الاهتمامات الفارغة . في المفاخرة بالأنساب وفي التعاظم بالآباء . . فأما الآن وقد أصبحت لهم بالإسلام رسالة ضخمة ، وأنشأ لهم الإسلام تصورا جديدا ، بعد أن أنشأهم نشأة جديدة . . أما الآن فيوجههم القرآن لما هو خير ، يوجههم إلى ذكر الله بعد قضاء مناسك الحج ، بدلا من ذكر الآباء :

( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) . .

وقوله لهم : ( كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) . . لا يفيد أن يذكروا الآباء مع الله ، ولكنه يحمل طابع التنديد ، ويوحي بالتوجيه إلى الأجدر والأولى . . يقول لهم : إنكم تذكرون آباءكم حيث لا يجوز أن تذكروا إلا الله . فاستبدلوا هذا بذاك . بل كونوا أشد ذكرا لله وأنتم خرجتم إليه متجردين من الثياب ، فتجردوا كذلك من الأنساب . . ويقول لهم : إن ذكر الله هو الذي يرفع العباد حقا ، وليس هو التفاخر بالآباء . فالميزان الجديد للقيم البشرية هو ميزان التقوى . ميزان الاتصال بالله وذكره وتقواه .

ثم يزن لهم بهذا الميزان ، ويريهم مقادير الناس ومآلاتهم بهذا الميزان :

( فمن الناس من يقول : ربنا آتنا في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق ) ( ومنهم من يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . . أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ) . .

إن هناك فريقين . فريقا همه الدنيا ، فهو حريص عليها ، مشغول بها . وقد كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف في الحج فيقولون : اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا . . وورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الآية نزلت في هذا الفريق من الناس . . ولكن مدلول الآية اعم وأدوم . . فهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والبقاع . النموذج الذي همه الدنيا وحدها . يذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالدعاء ؛ لأنها هي التي تشغله ، وتملأ فراغ نفسه ، وتحيط عالمه وتغلقه عليه . . هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا - إذا قدر العطاء - ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

يأمرُ تعالى بذكره والإكثار منه بعد قَضَاء المناسك وفراغها .

وقوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } اختلفوا في معناه ، فقال ابن جُرَيج ، عن عطاء : هو{[3665]} كقول الصبي : " أبَهْ أمَّهْ " ، يعني : كما يَلْهَج الصبي بذكر أبيه وأمه ، فكذلك أنتم ، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك . وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس . وروى ابنُ جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس - نحوه .

وقال سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس [ قال ]{[3666]} : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم{[3667]} فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحَمَالات [ ويحمل الديات ]{[3668]} . ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم . فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }

قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن أنس بن مالك ، وأبي وائل ، وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة في إحدى رواياته ، ومجاهد ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك . وهكذا حكاه ابن جرير أيضًا عن جماعة ، والله أعلم .

والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل ؛ ولهذا كان انتصاب قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } على التمييز ، تقديره كذكركم آباءكم أو أشد منه ذكرًا . و " أو " هاهنا لتحقيق المماثلة في الخبر ، كقوله : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، وقوله : { يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ،

{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] ، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [ النجم : 9 ] . فليست هاهنا للشك قطعًا ، وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزْيَد منه . ثم إنه تعالى أرشد إلى دُعَائه بعد كثرة ذكره ، فإنه مظنة الإجابة ، وذَمَّ من لا يسأله إلا في أمر دنياه ، وهو معرض عن أخراه ، فقال : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي : مِنْ نَصِيب ولا حظ . وتضمَّن هذا الذمّ التنفير عن التشبه{[3669]} بمن هو كذلك .

200


[3665]:في جـ: "وهو".
[3666]:زيادة من جـ، ط.
[3667]:في أ: "في المواسم".
[3668]:زيادة من أ، و.
[3669]:في أ: "عن التشبيه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }

يعني بقول جل ثناؤه : فَإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فإذا فرغتم من حجكم فذبحتم نسائككم ، فاذْكُرُوا اللّهَ يقال منه : نسك الرجل ينسك نُسْكا ونُسُكا ونسيكة ومنسكا إذا ذبح نسكه ، والمنسك : اسم مثل المشرق والمغرب . فأما النسك في الدين ، فإنه يقال منه ما كان الرجل ناسكا ، ولقد نَسَك ، وَنسُك نُسْكا ونُسُكا ونساكة ، وذلك إذا تقرأ .

وبمثل الذي قلنا في معنى المناسك في هذا الموضع قال مجاهد .

3حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ قال : إهراقة الدماء .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وأما قوله : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا ، فإن أهل التأويل اختلفوا في صفة ذكر القوم آباءهم الذين أمرهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءهم أو أشدّ ذكرا ، فقال بعضهم : كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم ، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره ، وأن يلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره نظير ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم . ذكر من قال ذلك :

3حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن القاسم بن عثمان ، عن أنس في هذه الآية ، قال : كانوا يذكرون آباءهم في الحج ، فيقول بعضهم : كان أبي يطعم الطعام ، ويقول بعضهم : كان أبي يضرب بالسيف ، ويقول بعضهم : كان أبي جزّ نواصي بني فلان .

3وحدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز ، عن مجاهد قال : كانوا يقولون : كان آباؤنا ينحرون الجزر ، ويفعلون كذا ، فنزلت هذه الآية : اذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ اشَدّ ذِكْرا .

3حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال : كان أهل الجاهلية يذكرون فعال آبائهم .

حدثنا أبو كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش ، قال : كان أهل الجاهلية إذا فرغوا من الحجّ قاموا عند البيت فيذكرون آبائهم وأيامهم : كان أبي يطعم الطعام ، وكان أبي يفعل ، فذلك قوله : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ . قال أبو كريب : قلت ليحيى بن آدم : عمن هو ؟ قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن أبي وائل .

وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني حجاج عمن حدثه ، عن مجاهد في قوله : اذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة فذكروا آباءهم ، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم ، فنزلت هذه الآية .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد في قوله : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة ، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم . قال : فنزلت هذه الآية .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْركُمْ آباءَكُمْ قال : تفاخرت العرب بينها بفعل آبائها يوم النحر حين فرغوا فأمروا بذكر الله مكان ذلك .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنى قعدوا حلقا ، فذكروا صنيع آبائهم في الجاهلية وفعالهم به ، يخطب خطيبهم ويحدّث محدّثهم ، فأمر الله عزّ وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشدّ ذكرا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا فافتخروا وذكروا آباءهم وأيامها ، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكر الله ، يذكرونه كذكرهم آبائهم ، أو أشدّ ذكرا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير وعكرمة قالا : كانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وقفوا بعرفة ، فنزلت هذه الآية .

حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول ذلك يوم النحر حين ينحرون قال : قال فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال : كانت العرب يوم النحر حين يفرغون يتفاخرون بفعال آبائها ، فأمروا بذكر الله عزّ وجل مكان ذلك .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فاذكروا الله كذكر الأبناء والصبيان الاَباء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عثمان بن أبي روّاد ، عن عطاء أنه قال في هذه الآية : كَذِكْركُمْ آباءَكُمْ قال : هو قول الصبيّ : يا أباه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ يعني بالذكر ، ذكر الأبناء الاَباء .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء : كَذِكْرِكُمْ آباَءكُمْ : أبه أمه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا صالح بن عمر ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : كالصبيّ يلهج بأبيه وأمه .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : فَإذَا قَضَيَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْركُمْ آباَءكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا يقول : كذكر الأبناء الاَباء أو أشد ذكرا .

3حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فَإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا يقول : كما يذكر الأبناء الاَباء .

3حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ يعني ذكر الأبناء الاَباء .

وقال آخرون : بل قيل لهم : اذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربهم لم يذكروا غير آبائهم فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آباءهم . ذكر من قال ذلك :

3حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال : كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقاموا بمنى يقوم الرجل فيسأل الله ويقول : اللهمّ إنّ أبي كان عظيم الجفنة عظيم القبة كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيت أبي . ليس يذكر الله ، إنما يذكر آباءه ، ويسأله أن يعطى في الدنيا .

والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمر عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له بعد قضاء مناسكهم . وذلك الذكر جائز أن يكون هو التكبير الذي أمر به جل ثناؤه بقوله : واذْكُرُوا اللّهَ في أيّامٍ مَعْدُودَاتٍ الذي أوجبه على من قضى نسكه بعد قضائه نسكه ، فألزمه حينئذٍ من ذكره ما لم يكن له لازما قبل ذلك ، وحثّ على المحافظة عليه محافظة الأبناء على ذكر الاَباء في الإكثار منه بالاستكانة له والتضرّع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرّع الولد لوالده والصبيّ لأمه وأبيه ، أو أشدّ من ذلك إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه وهو وليه .

وإنما قلنا : الذكر الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاج بعد قضاء مناسكه بقوله : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُروا اللّهَ كَذِكْركُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا جائز أن يكون هو التكبير الذي وصفنا من أجل أنه لا ذكر لله أمر العباد به بعد قضاء مناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم ، سوى التكبير الذي خصّ الله به أيام منى .

فإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أنه جل ثناؤه قد أوجب على خلقه بعد قضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبا عليهم قبل ذلك ، وكان لا شيء من ذكره خصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه ، كانت بينة صحة ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا .

القول في تأويل قوله تعالى : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ ربّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ .

يعني بذلك جل ثناؤه : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أيها المؤمنون فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا وارغبوا إليه فيما لديه من خير الدنيا والاَخرة بابتهال وتمسكن ، واجعلوا أعمالكم لوجهه خالصا ولطلب مرضاته ، وقولوا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاَخرة حسنة وقنا عذاب النار ولا تكونوا كمن اشترى الحياة الدنيا بالاَخرة ، فكانت أعمالهم للدنيا وزينتها ، فلا يسألون ربهم إلا متاعها ، ولا حظّ لهم في ثواب الله ، ولا نصيب لهم في جناته وكريم ما أعدّ لأوليائه ، كما قال في ذلك أهل التأويل .

3حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل : فَمِنَ النّاسِ مَن يقولُ ربّنَا آتِنا في الدّنيَا هب لنا غنما ، هب لنا إبلاً وَمالَهُ في الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، قال : كانوا في الجاهلية يقولون : هب لنا إبلاً ، ثم ذكر مثله .

حدثنا أبو كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش في قوله : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُول رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرَةٍ منْ خَلاقٍ قال : كانوا يعني أهل الجاهلية يقفون يعني بعد قضاء مناسكهم فيقولون : اللهمّ ارزقنا إبلاً ، اللهمّ ارزقنا غنما . فأنزل الله هذه الآية : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرَة مِنْ خَلاقٍ . قال أبو كريب : قلت ليحيى بن آدم : عمن هو ؟ قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن أبي وائل .

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن القاسم بن عثمان ، عن أنس : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَه فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون فيقولون : اللهمّ أسقنا المطر ، وأعطنا على عدوّنا الظفر ، وردّنا صالحين إلى صالحين .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا نصرا ورزقا ، ولا يسألون لاَخرتهم شيئا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وحدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قول الله : فَمِنْ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فهذا عبد نوى الدنيا لها عمل ولها نصب .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُول رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَمالَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال : كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى لا يذكر الله الرجلُ منهم ، إنما يذكر أباه ، ويسأل أن يعطى في الدنيا .

وحدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال : كانوا أصنافا ثلاثة في تلك المواطن يومئذٍ : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهل الكفر ، وأهل النفاق . فمن الناس من يقول : رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرة مِنْ خَلاقٍ إنما حجوا للدنيا والمسألة لا يريدون الاَخرة ولا يؤمنون بها ، ومنهم من يقول : رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيا حَسَنَةً الآية . قال : والصنف الثالث وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيَا . . . الآية .

وأما معنى الخلاق فقد بيناه في غير هذا الموضع ، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويله والصحيح لدينا من معناه بالشواهد من الأدلة وأنه النصيب ، بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

{ فإذا قضيتم مناسككم } فإذا قضيتم العبادات الحجية وفرغتم منها . { فاذكروا الله كذكركم آباءكم } فأكثروا ذكره وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر أبائكم في المفاخرة . وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم . { أو أشد ذكرا } إما مجرور معطوف على الذكر يجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ . أو على ما أضيف إليه على ضعف بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا . وإما منصوب بالعطف على آباءكم وذكرا من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آباءكم . أم بمضمر دل عليه المعنى تقديره : أو كونوا أشد ذكرا منكم آبائكم . { فمن الناس من يقول } تفصيل للذاكرين إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب به خير الدارين ، والمراد الحث على الإكثار والإرشاد إليه . { ربنا آتنا في الدنيا } اجعل إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا { وما له في الآخرة من خلاق } أي نصيب وحظ لأن همه مقصور بالدنيا ، أو من طلب خلاق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } ( 200 )

وقوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } الآية ، قال مجاهد : «المناسك الذبائح وهراقة الدماء » ، والمناسك عندي العبادات في معالم الحج ومواضع النسك فيه ، والمعنى إذا فرغتم من حجكم الذي هو الوقوف بعرفة فاذكروا الله بمحامده وأثنوا عليه بآلائه عندكم ، وخص هذا الوقت بالقضاء لما يقضي الناس فيه مناسكهم في حين واحد ، وما قبل وما بعد فهو على الافتراق : هذا في طواف وهذا في رمي وهذا في حلاق وغير ذلك ، وكانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة فتتفاخر بالآباء وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم وغير ذلك ، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله تعالى( {[1898]} ) أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيام الجاهلية ، هذا قول جمهور المفسرين .

وقال ابن عباس وعطاء : معنى الآية اذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم ، أي فاستغيثوا( {[1899]} ) به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم .

وقالت طائفة : معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه ، وادفعوا من أراد الشرك والنقص في دنيه ومشاعره ، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم ، وقرأ محمد ابن كعب القرظي «كذكركم آباؤكم » أي اهتبلوا بذكره كما يهتبل المرء بذكر ابنه ، فالمصدر على هذه القراءة مضاف إلى المفعول( {[1900]} ) ، و { أشد } في موضع خفض عطفاً على { ذكركم } ويجوز أن يكون في موضع نصب ، التقدير أو اذكروه أشد ذكراً .

وقوله تعالى : { فمن الناس من يقول } الآية( {[1901]} ) ، قال أبو وائل والسدي وابن زيد : كانت عادتهم في الجاهلية أن يدعوا في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة ، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص ، بأمر الدنيا( {[1902]} ) ، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم ، والخلاق : النصيب والحظ ، و { من } زائدة لأنها بعد النفي ، فهي مستغرقة لجنس الحظوظ .


[1898]:- قال الإمام النووي رحمه الله: «المراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر، ويحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر ويتعقل معناه، فالتدبر في الذكر مطلوب كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود». وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري: «ولا مطمع للذاكر في درك حقائق الذكر إلا بإعمال الفكر فيما تحت ألفاظ الذكر من المعاني، وليرفع خطرات نفسه عن باطنه راجعا إلى مقتضى ذكره حتى يغلب معنى الذكر على قبله» انتهى من مختصر ابن عطية رحمه الله.
[1899]:- وفي بعض النسخ: «فاستعينوا به».
[1900]:- والفاعل أباؤكم، والتقدير: اذكروا الله كما يذكركم آباؤكم.
[1901]:- لما كان الدعاء نوعا من أنواع الذكر ذكره بعد إرشاد عباده إلى ذكره سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: بعد قضاء مناسككم وعبادتكم، اذكروا الله ذكرا كثيرا وادعوه دعاء شاملا، لا دعاء خاصا بالدنيا.
[1902]:- أي بالدنيا: وليس المراد أنه يريد من الناس أن يتركوا أمر الدنيا لأنهم يعيشون فيها، ولكنه سبحانه يريد من الناس أن يعملوا لهذه الدنيا، ولما هو أكبر منها حتى لا يحصروا نشاطهم فيها، بل عليهم أن يزاولوا الخلافة في الحياة الدنيا، وأن يعرفوا مستواهم إلى الأفق الأعلى، وإلى الحياة الأخرى.