قوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } . أي فرغتم من حجكم ، وذبحتم مناسككم ، أي ذبائحكم ، يقال : نسك الرجل ينسك نسكا إذا ذبح نسيكته ، وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى .
قوله تعالى : { فاذكروا الله } . بالتكبير والتحميد والثناء عليه .
قوله تعالى : { كذكركم آباءكم } . وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت عند البيت فذكرت مفاخر آبائها ، فأمرهم الله تعالى بذكره وقال : فاذكروني فأني الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم وإليهم . قال ابن عباس وعطاء : معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء ، وذلك أن الصبي أول ما يتكلم يلهج بذكر أبيه ، لا بذكر غيره ، فيقول الله : فاذكروا الله لا غير كذكر الصبي أباه .
قوله تعالى : { أو أشد ذكرا } . وسئل ابن عباس عن قوله : ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم ) فقيل : قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه ؟ قال ابن عباس : ليس كذلك ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما ، وقوله تعالى ( أو أشد ذكراً ) يعني : بل وأشد ، أي وأكبر ذكراً .
قوله تعالى : { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } . أراد به المشركين كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا يقولون : اللهم أعطنا غنماً وإبلاً وبقراً وعبيداً ، وكان الرجل يقوم فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة ، كبير الجفنة ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيته .
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق ، وأن الجميع يسألونه مطالبهم ، ويستدفعونه ما يضرهم ، ولكن مقاصدهم تختلف ، فمنهم : { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي : يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته ، وليس له في الآخرة من نصيب ، لرغبته عنها ، وقصر همته على الدنيا ، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين ، ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه ، وكل من هؤلاء وهؤلاء ، لهم نصيب من كسبهم وعملهم ، وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم ، وهماتهم ونياتهم ، جزاء دائرا بين العدل والفضل ، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه ، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع ، مسلما أو كافرا ، أو فاسقا ، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه ، دليلا على محبته له وقربه منه ، إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين .
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد ، من رزق هنيء واسع حلال ، وزوجة صالحة ، وولد تقر به العين ، وراحة ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ونحو ذلك ، من المطالب المحبوبة والمباحة .
وحسنة الآخرة ، هي السلامة من العقوبات ، في القبر ، والموقف ، والنار ، وحصول رضا الله ، والفوز بالنعيم المقيم ، والقرب من الرب الرحيم ، فصار هذا الدعاء ، أجمع دعاء وأكمله ، وأولاه بالإيثار ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به ، والحث عليه .
( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا . فمن الناس من يقول : ربنا آتنا في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق . ومنهم من يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار . أولئك لهم نصيب مما كسبوا ، والله سريع الحساب ) . .
ولقد سبق أنهم كانوا يأتون أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز . . وهذه الأسواق لم تكن أسواق بيع وشراء فحسب ؛ إنما كانت كذلك أسواق كلام ومفاخرات بالآباء ومعاظمات بالأنساب . . ذلك حين لم يكن للعرب من الإهتمامات الكبيرة ما يشغلهم عن هذه المفاخرات والمعاظمات ! لم تكن لهم رسالة إنسانية بعد ينفقون فيها طاقة القول وطاقة العمل . فرسالتهم الإنسانية الوحيدة هي التي ناطهم بها الإسلام . فأما قبل الإسلام وبدون الإسلام فلا رسالة لهم في الأرض ، ولا ذكر لهم في السماء . . ومن ثم كانوا ينفقون أيام عكاظ ومجنة وذي المجاز في تلك الاهتمامات الفارغة . في المفاخرة بالأنساب وفي التعاظم بالآباء . . فأما الآن وقد أصبحت لهم بالإسلام رسالة ضخمة ، وأنشأ لهم الإسلام تصورا جديدا ، بعد أن أنشأهم نشأة جديدة . . أما الآن فيوجههم القرآن لما هو خير ، يوجههم إلى ذكر الله بعد قضاء مناسك الحج ، بدلا من ذكر الآباء :
( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) . .
وقوله لهم : ( كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) . . لا يفيد أن يذكروا الآباء مع الله ، ولكنه يحمل طابع التنديد ، ويوحي بالتوجيه إلى الأجدر والأولى . . يقول لهم : إنكم تذكرون آباءكم حيث لا يجوز أن تذكروا إلا الله . فاستبدلوا هذا بذاك . بل كونوا أشد ذكرا لله وأنتم خرجتم إليه متجردين من الثياب ، فتجردوا كذلك من الأنساب . . ويقول لهم : إن ذكر الله هو الذي يرفع العباد حقا ، وليس هو التفاخر بالآباء . فالميزان الجديد للقيم البشرية هو ميزان التقوى . ميزان الاتصال بالله وذكره وتقواه .
ثم يزن لهم بهذا الميزان ، ويريهم مقادير الناس ومآلاتهم بهذا الميزان :
( فمن الناس من يقول : ربنا آتنا في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق ) ( ومنهم من يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . . أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ) . .
إن هناك فريقين . فريقا همه الدنيا ، فهو حريص عليها ، مشغول بها . وقد كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف في الحج فيقولون : اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا . . وورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الآية نزلت في هذا الفريق من الناس . . ولكن مدلول الآية اعم وأدوم . . فهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والبقاع . النموذج الذي همه الدنيا وحدها . يذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالدعاء ؛ لأنها هي التي تشغله ، وتملأ فراغ نفسه ، وتحيط عالمه وتغلقه عليه . . هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا - إذا قدر العطاء - ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق !
يأمرُ تعالى بذكره والإكثار منه بعد قَضَاء المناسك وفراغها .
وقوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } اختلفوا في معناه ، فقال ابن جُرَيج ، عن عطاء : هو{[3665]} كقول الصبي : " أبَهْ أمَّهْ " ، يعني : كما يَلْهَج الصبي بذكر أبيه وأمه ، فكذلك أنتم ، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك . وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس . وروى ابنُ جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس - نحوه .
وقال سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس [ قال ]{[3666]} : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم{[3667]} فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحَمَالات [ ويحمل الديات ]{[3668]} . ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم . فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }
قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن أنس بن مالك ، وأبي وائل ، وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة في إحدى رواياته ، ومجاهد ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك . وهكذا حكاه ابن جرير أيضًا عن جماعة ، والله أعلم .
والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل ؛ ولهذا كان انتصاب قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } على التمييز ، تقديره كذكركم آباءكم أو أشد منه ذكرًا . و " أو " هاهنا لتحقيق المماثلة في الخبر ، كقوله : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، وقوله : { يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ،
{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] ، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [ النجم : 9 ] . فليست هاهنا للشك قطعًا ، وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزْيَد منه . ثم إنه تعالى أرشد إلى دُعَائه بعد كثرة ذكره ، فإنه مظنة الإجابة ، وذَمَّ من لا يسأله إلا في أمر دنياه ، وهو معرض عن أخراه ، فقال : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي : مِنْ نَصِيب ولا حظ . وتضمَّن هذا الذمّ التنفير عن التشبه{[3669]} بمن هو كذلك .