قوله تعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } ، قيل : أرادوا أن الله تعالى لنا كالأب في الحنو والعطف ، ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة ، وقال إبراهيم النخعي : إن اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري ، فبدلوا يا أبناء أبكاري ، فمن ذلك قالوا : نحن أبناء الله ، وقيل : معناه نحن الله يعني أبناء رسل الله .
قوله تعالى : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } ، يريد إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه ، فإن الأب لا يعذب ولده ، والحبيب لا يعذب حبيبه ، وأنتم مقرون أنه معذبكم ، وقيل : { فلم يعذبكم } أي : لم عذب من قبلكم بذنوبهم فمسخهم قردة وخنازير ؟ قوله تعالى : { بل أنتم بشر ممن خلق } ، كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان . قوله تعالى : { يغفر لمن يشاء } فضلاً .
قوله تعالى : { ويعذب من يشاء } ، عدلاً .
قوله تعالى : { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير } .
ومن مقالات اليهود والنصارى أن كلا منهما ادعى دعوى باطلة ، يزكون بها أنفسهم ، بأن قال كل منهما : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }
والابن في لغتهم هو الحبيب ، ولم يريدوا البنوة الحقيقية ، فإن هذا ليس من مذهبهم إلا مذهب النصارى في المسيح .
قال الله ردا عليهم حيث ادعوا بلا برهان : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } ؟
فلو كنتم أحبابه ما عذبكم [ لكون الله لا يحب إلا من قام بمراضيه ]{[259]}
{ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } تجري عليكم أحكام العدل والفضل { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب ، { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة ، وأنتم من جملة المماليك ومن جملة من يرجع إلى الله في الدار الآخرة ، فيجازيكم بأعمالكم .
واليهود والنصارى يقولون : إنهم أبناء الله وأحباؤه :
( وقالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه ) . .
فزعموا لله - سبحانه - أبوة ، على تصور من التصورات ، إلا تكن أبوة الجسد فهي أبوة الروح . وهي أيا كانت تلقي ظلا على عقيدة التوحيد ؛ وعلى الفصل الحاسم بين الألوهية والعبودية . هذا الفصل الذي لا يستقيم التصور ، ولا تستقيم الحياة ، إلا بتقريره . كي تتوحد الجهة التي يتوجه إليها العباد كلهم بالعبودية ؛ وتتوحد الجهة التي تشرع للناس ؛ وتضع لهم القيم والموازين والشرائع ؛ والقوانين ، والنظم والأوضاع ، دون أن تتداخل الاختصاصات ، بتداخل الصفات والخصائص ، وتداخل الألوهية والعبودية . . فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب ، إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف !
واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، كانوا يقولون - تبعا لهذا - إن الله لن يعذبهم بذنوبهم ! وإنهم لن يدخلوا النار - إذا دخلوا - إلا أياما معدودات . ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه ! وأنه سبحانه - يحابي فريقا من عباده ، فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الاخرين ! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور ؟ وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف ؟
وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور ، وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة ، ويقرر عدل الله الذي لا يحابي ؛ كما يقرر بطلان ذلك الادعاء :
( قل : فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) . .
بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان . يقرر بطلان ادعاء البنوة ؛ فهم بشر ممن خلق . ويقرر عدل الله وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد . على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه . لا بسبب بنوة أو صلة شخصية !
ثم يكرر أن الله هو المالك لكل شيء ، وأن مصير كل شيء إليه :
( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ) . .
والمالك غير المملوك . تتفرد ذاته - سبحانه - وتتفرد مشيئته ، ويصير إليه الجميع . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالت اليهود} يهود المدينة، وغيرهم، {والنصارى} قالوا جميعا: {نحن أبناء الله وأحباؤه}، وافتخروا على المسلمين، وقالوا: ما أحد من الناس أعظم عند الله منزلة منا، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قل} للمسلمين يردوا عليهم: {فلم يعذبكم بذنوبكم}، حين زعمتم وقلتم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، يعني عدة ما عبدوا فيها العجل، إن كنتم أبناء الله وأحباؤه، أفتطيب نفس رجل أن يعذب ولده بالنار؟ والله أرحم من جميع خلقه. فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم: {بل أنتم بشر ممن خلق} من العباد، ولستم بأبناء الله وأحبائه، {يغفر لمن يشاء}: يتجاوز عمن يشاء فيهديه لدينه، {ويعذب من يشاء} فيميته على الكفر.
ثم عظم الرب نفسه عز وجل عن قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، فقال سبحانه: {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما} من الخلق يحكم فيهما ما يشاء هم عبيده وفي ملكه، {وإليه المصير} في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا خبر من الله جلّ وعزّ عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول... عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحريّ بن عمرو، وشأس بن عديّ، فكلموه، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد، نحن والله أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى، فأنزل الله جلّ وعزّ فيهم: وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنّصَارَى نَحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّاؤُهُ...". "وأحِبّاؤُهُ "وهو جمع حبيب، يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم فَلِمَ يُعَذّبُكُمْ رَبّكُمْ؟ يقول: فلأيّ شيء يعذّبكم ربكم بذنوبكم إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه، فإن الحبيب لا يعذّب حبيبه، وأنتم مقرّون أنه معذّبكم. وذلك أن اليهود قالت: إن الله معذّبنا أربعين يوما عدد الأيام التي عبدنا فيه العجل، ثم يخرجنا جميعا منها فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كنتم كما تقولون أبناءُ الله وأحباؤه، فلم يعذّبكم بذنوبكم؟ يُعلمهم عزّ ذكره أنهم أهل فِرية وكذب على الله جلّ وعزّ.
"بَلْ أنْتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يشاءُ": يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه، بل أنتم بشر ممن خلق، يقول: خلق من بني آدم، خلقكم الله مثل سائر بني آدم، إن أحسنتم جُوزيتم بإحسانكم كما سائر بني آدم مَجْزِيّون بإحسانهم، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم كما غيركم مجزي بها، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبه، فيصفح عنه بفضله، ويسترها عليه برحمته، فلا يعاقبه بها...
"وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ": ويعدل على من يشاء من خلقه، فيعاقبه على ذنوبه، ويفضحه بها على رءوس الأشهاد، فلا يسترها عليه، وإنما هذا من الله عزّ وجلّ وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى، المتكلين على منازل سلفهم الخيار عند الله، الذين فضلهم الله بطاعتهم إياه، واجتنابهم معصيته، لمسارعتهم إلى رضاه، واصطبارهم على ما نابهم فيه. يقول لهم: لا تغتروا بمكان أولئك مني، ومنازلهم عندي، فإنهم إنما نالوا مني بالطاعة لي، وإيثار رضاي على محابهم، لا بالأماني، فجِدّوا في طاعتي، وانتهوا إلى أمري، وانزجروا عما نهيتهم عنه، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي، وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي، لا لمن قرُبت زلفة آبائه مني، وهو لي عدوّ ولأمري ونهيي مخالف. عن السديّ: قوله: "يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ "يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذّبه.
"ولِلّهِ مُلْكُ السّمَواتِ والأرْض وَما بَيْنَهُما وإلَيْهِ المَصِيرُ": لله تدبير ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وتصريفه، وبيده أمره، وله ملكه، يصرّفه كيف يشاء ويدبره كيف أحبه، لا شريك له في شيء منه ولا لأحد معه فيه ملك، فاعلموا أيها القائلون: نحن أبناء الله وأحباؤه، أنه إن عذّبكم بذنوبكم، لم يكن لكم منه مانع ولا لكم عنه دافع لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيَه لسبب ذلك، ولا لأحد في شيء دونه ملك، فيحول بينه وبينه إن أراد تعذيبه بذنوبه. فاتقوا أيها المفترون عقابه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه، ولا تغترّوا بالأماني وفضائل الآباء والأسلاف.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] دليل أن من رفع أحدا من الرسل فوق قدره [فهو] في الكفر كمن حطه عن قدره ومرتبته.
{يغفر لمن يشاء} أي من تاب، وأسلم {ويعذب من يشاء} من دام على الكفر، ومات عليه.
{ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما} أي كلهم عبيده وإماؤه وخلقه؛ يعظم نفسه عن قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} ولا أحد يتخذ عبده ولدا ولا حبا، فأنتم إذا أقررتم أنكم عبيده كيف ادعيتم البنوة والمحبة؟ والله أعلم. وفي الآية دلالة رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم قالوا قولا في ما بينهم، ثم أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ليعلم أنه إنما عرف ذلك بالله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" وإليه المصير "معناه إنه يؤول إليه إمر العباد في أنه لا يملك ضرهم، ولا نفعهم غيره – عز وجل -، لأنه يبطل تمليكه لغيره ذلك اليوم كما ملكهم في دار الدنيا، كما يقال: صار أمرنا إلى القاضي لا على معنى قرب المكان، وإنما يراد بذلك أنه المتصرف فينا والآمر لنا دون غيره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
البنوة تقتضي المجانسة، والحقُّ عنها مُنزه. والمحبةُ بين المتجانسين تقتضي الاحتفاظ والمؤانسة، والحق سبحانه عن ذلك مُقدَّس. فردَّ الله -سبحانه- عليهم فقال تعالى: {بَلْ أَنْتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ}. والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضاً للقديم؛ فالقديم لا بعضَ له لأن الأحدية حقه، فإذا لم يكن له عدد، لم يجز أن يكون له ولد. وإذا لم يجز له ولد لم تجز -على الوجه الذي اعتقدوه- بينهم وبينه محبة.
ويقال في الآية بشارة لأهل المحبة بالأمان من العذاب والعقوبة به لأنه قال: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم}. ويقال بيَّن في هذه الآية أن قصارى الخلْق إمَّا عذاب وإمّا غفران ولا سبيل إلى شيء وراء ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أبناؤا الله} أشياع ابني الله عزير والمسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير (الخبيبون) وكما كان يقول رهط مسيلمة: نحن أنبياء الله. ويقول أقرباء الملك وذووه وحشمه: نحن الملوك. ولذلك قال مؤمن آل فرعون: لكم الملك اليوم {فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} فإن صحّ أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون وتمسكم النار أياماً معدودات على زعمكم. ولو كنتم أبناء الله، لكنتم من جنس الأب، غير فاعلين للقبائح ولا مستوجبين للعقاب. ولو كنتم أحباءهُ، لما عصيتموه ولما عاقبكم {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} من جملة من خلق من البشر {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} وهم أهل الطاعة {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} وهم العصاة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله تعالى «يعذبهم» به في الدنيا. وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوباً على بابه ذكر ذنبه وذكر عقوبته فينفذ ذلك عليه، فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب ينافي أنهم أبناء وأحباء. ثم ترك الكلام الأول وأضرب عنه غير مفسد له، ودخل في غيره من تقرير كونهم بشراً كسائر الناس، والخلق أكرمهم أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له، ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه، وله ملك السماوات الأرض وما بينهما، فله بحق الملك أن يفعل ما شاء لا معقب لحكمه وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد.
{وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}:...وجملة الكلام أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلا على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
ثم إنه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} وفيه سؤال، وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم، فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه، والإشكال عليه أن يقال: إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة، فإن كان موضع الإلزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله لأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله، ثم إنهم ما خلوا عن محن الدنيا. انظروا إلى وقعة أحد، وإلى قتل الحسن والحسين، وإن كان موضع الإلزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك. ومجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم ليس بكاف في هذا الباب، إذ لو كان كافيا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافيا، وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعا.
والجواب من وجوه: الأول: أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا، والمعارضة بيوم أحد غير لازمة لأنه يقول: لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم الله في الدنيا، ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء الله ولم يدع أنه من أبناء الله فزال السؤال. الثاني: أن موضع الإلزام هو عذاب الآخرة، واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}. والثالث: المراد بقوله {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} فلم مسخكم، فالمعذب في الحقيقة اليهود الذين كانوا قبل اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا أنهم لما كانوا من جنس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة، وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون: لا نسلم أنه تعالى يعذبنا، بل الأولى أن يحتج عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قويا متينا.
{بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له، وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه، بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
واعلم أنا بيّنا أن مراد القوم من قولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه} كمال رحمته عليهم وكمال عنايته بهم.
{ولله ملك السموات والأرض وما بينهما} بمعنى من كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه حقا واجبا؟ وكيف يملك الإنسان الجاهل بعبادته الناقصة ومعرفته القليلة عليه دينا. إنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا.
{وإليه المصير} أي وإليه يؤول أمر الخلق في الآخرة لأنه لا يملك الضر والنفع هناك إلا هو كما قال {والأمر يومئذ لله}.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات لا ينتمي إليه سبحانه شيء منها إلا بالملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته، يتصرّف فيهم كيف يشاء إيجاداً وإعداماً، إحياء وإماتة، وإثابة وتعذيباً، فأنى لهم ادعاءُ ما زعموا. {وَإِلَيْهِ المصير} في الآخرة خاصة لا إلى غيره استقلالاً أو اشتراكاً فيجازي كلاًّ من المحسن والمسيء بما يستدعيه عملُه من غير صارف يَثْنيه ولا عاطفٍ يَلْويه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن منذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي وبحري بن عمرو وشاي بن عدي فكلمهم وكلموه ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى. فأنزل الله فيهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} إلى آخر الآية. ومن قرأ كتب اليهود والنصارى رأى فيها لقب (ابن الله) قد أطلق على آدم. (انظر إنجيل لوقا 3: 38) وعلى يعقوب وداود مع لقب البكر (انظر سفر الخروج 4: 22 و23 والمزمور 98: 26 و27) وكذا على إفرام (انظر نبوة ارمياء 31: 9) وعلى المسيح عليهم السلام ولكن مع لقب الحبيب فهو تفسير لكلمة ابن. وأطلق مجموعا على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين. وهذا الاستعمال كثير في العهد.
ومنه ما حكاه متى في وعظ المسيح على الجبل (طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون) وقال بولس في رسالته إلى أهل رومية 8: 14 (لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله) وجاء في سياق المناظرة بين المسيح واليهود من إنجيل يوحنا ما نصه 8: 41 (أنتم تعلمون أعمال أبيكم، فقالوا له إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني – إلى أن قال –44 أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا) وفي هذا المعنى ما جاء في الرسالة الأولى من رسالتي يوحنا 3: 9 (كل من هو مولود من الله لا يفعل خطيئة لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس).
فعلم من هذه النصوص وأشباهها أن لفظ (ابن الله) يستعمل في كتب القوم بمعنى حبيب الله الذي يعامله الله معاملة الأب لابنه من الرحمة والإحسان والتكريم. فعطف أحباء الله على أبناء الله للتفسير والإيضاح، وإنما تحكم النصارى بهذا اللقب فجعلوه بمعنى الابن الحقيقي بالنسبة إلى المسيح وبالمعنى المجازي بالنسبة إلى غيره من الصالحين. ومعنى الابن الحقيقي محال على الله تعالى لأنه عبارة عن الولد الذي ينشأ من تلقيح الرجل بمائه لبعض ما في رحم المرأة من البيض. فالمعنى المجازي متعين كما ترى وسنوضحه في تفسير {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة:30] ولما كان ما ذكرناه مؤيدا بالشواهد هو المعنى المراد لأولئك المتبجحين من اليهود والنصارى حسن رد الله تعالى عليهم بقوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} أي قل لهم أيها الرسول: إذا كان الأمر كما زعمتم فلم يعذبكم الله تعالى بذنوبكم في الدنيا كما تعلمون من تاريخكم الماضي وكما ترون في تاريخكم الحاضر. ومن هذا العذاب لليهود ما كان من تخريب الوثنيين لمسجدهم الأكبر ولبلدهم المرة بعد المرة، ومن إزالة ملكهم من الأرض، وللنصارى ما اضطهدهم به الأمم وما نكل به بعضهم ببعض. وهو شر من تنكيلهم وتنكيل الوثنيين باليهود. أن الأب لا يعذب ابنه والمحب لا يعذب حبيبه، فلستم إذا أبناء لله ولا أحباءه، بل أنتم بشر من جملة ما خلق الله تعالى، وهو عز وجل الحكم العدل لا يحابي أحدا، وإنما يغفر لمن يعلم أنه مستحق للمغفرة، ويعذب من يعلم أنه مستحق للعذاب، فهو يجزيكم بأعمالكم، كما يجزي سائر البشر أمثالكم، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم، فإنما العبرة بالإيمان الصحيح والأعمال الصالحات، لا بما سلف من الآباء والأمهات.
{وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أثبت الله تعالى في هذه الآية مثل ما أثبت في التي قبلها من أن له ملك السماوات والأرض وما بين أجرامهما وأجزائهما من المخلوقات، إلا أنه ختم تلك بكونه على كل شيء قديرا، لأن المقام مقام الغرابة في الخلق، وامتياز بعضه على بعض. وختم هذه ببيان كون المرجع والمصير إليه، لأن المقام مقام الجزاء على الأعمال. وذلك أن السماوات والأرض ومن فيهما وبين عالميهما نسبتها إليه تعالى واحدة، وهي أنه الخالق المالك الرب ذو التصرف المطلق في كل شيء بمقتضى العلم والحكمة، والعدل والفضل، وهي المخلوقات المملوكة، وجميع من يعقل فيها من الإنس والجن والملائكة عبيد له لا أبناء ولا بنات {إن كل ما في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا} [مريم: 93] وفي ختمها بقوله (وإليه المصير) إشعار بأنه سيعذبهم في الآخرة على هذا الكفر والغرور والدعاوى الباطلة، فيعلمون عند ما يصيرون إليه أنهم عبيد آبقون يجازون، لا أبناء ولا أحباء يحابون.
وقد استشكل بعضهم كون تعذيبهم دليلا على بطلان دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، لأنه إن أريد به عذاب الآخرة لا تقوم به الحجة عليهم لإنكارهم إياه، وإن أريد به عذاب الدنيا أورد عليه أنه غير قادح في ادعائهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته لم يسلموا من محن الدنيا كالذي حصل في وقعة أحد وقتل الحسن والحسين عليهما السلام، ونحن نعتقد أن الذين ابتلوا بهذه المحن من أحباء الله تعالى. وأجاب الرازي عن هذا الإشكال بثلاثة أجوبة حاصل الأول: أننا نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم وخيار أمته من أحباء الله تعالى ولا ندعي أنهم أبناء الله تعالى. وحاصل الثاني: أن المراد عذاب الآخرة وقد اعترف به اليهود إذا قال {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} [البقرة:80]. وحاصل الثالث: أن المراد به المسخ الذي وقع ببعض اليهود قبل الإسلام أضيف إلى المخاطبين لأنهم من جنسهم. قال الرازي بعد شرح الأجوبة بعبارة أخرى: وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسول عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود، فإنهم يقولون لا نسلم أنه تعالى يعذبنا، بل الأولى أن يحتج عليهم بشيء قد وجد حتى يكون الاستدلال قويا متينا اه.
ونحن نقول إن هذا الأخير أضعفها وإنهم لا يعترفون به أيضا، وإنه لا حجة فيه ولا في الثاني على النصارى، فيكون تسليما لهم أو إقرارا على دعوى أنهم أبناء الله، وهم الذين يكثرون هذه الدعوى، ويتبجحون بها، ثم إن التعبير بالمضارع (يعذبكم) ينفي أن يكون المراد تعذيبا خاصا بطائفة وقع في الزمن الماضي. وأقوى أجوبته الأول ولكن لم يفطن لما فيه من القوة ولم يبينه بيانا تاما، على أنه لم يحرر أصل الدعوى فيهتدي إلى تحرير الجواب. والصواب أن هذا الإشكال لا يرد على الإسلام والقرآن، وإليك البيان الصحيح الذي يتضاءل به حتى يدخل في خبر كان:
كان اليهود يعتقدون أنهم شعب الله الخاص ميزهم لذاتهم على جميع البشر فلا يمكن أن يساويهم شعب آخر عنده وإن كان أصح منهم إيمانا أصلح عملا، وإنهم لا يكونون تابعين لغيرهم في الدين، فلا يصح أن يتبعوا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه عربي لا إسرائيلي. والفاضل لا يتبع المفضول بزعمهم. ولا يمكن أن يؤاخذهم الله على الكفر به لأنهم شعبه الخاص المحبوب، فهو لا يعاملهم إلا معاملة الوالد لأبنائه الأعزاء والمحب لمحبوبه الخاص. وأما النصارى فقد أربوا عليهم في الغرور، وإن كان النبي الذي يدعون اتباعه قد جاهد غرور اليهود جهادا عظيما. فهم يدعون أن المسيح قد أفداهم بنفسه وأنهم أبناء الله بولادة الروح، والمسيح ابنه الحقيقي، يخاطبون الله تعالى دائما بلقب الأب. وقد كانت جميع فرقهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أشد من اليهود فسادا وإفسادا وفجورا وظلما وعدوانا بشهادة مؤرخي الأمم كلها منهم ومن غيرهم، ومع هذا كله كانوا يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم غير محتاجين إلى إصلاح في دينهم ولا دنياهم، ولهذا رفضوا ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم من التوحيد الخالص والفضائل الصحيحة والأعمال الصالحة، وردوا ما جاءهم به من كون مرضاة الله تعالى ومثوبته لا تنالان إلا بتزكية النفس وإصلاحها بالتوحيد والعمل.
هذا حاصل ما كان عليه اليهود والنصارى من الغرور بدينهم وبأنفسهم وبأنبيائهم الذين تركوا هديهم وضلوا طريقهم، وقد عبر الكتاب الحكيم عن ذلك هنا بأوجز لفظ وأخصره وهو قولهم (نحن أبناء الله وأحباؤه) وحاصل رده عليهم: أنكم من نوع البشر الذي هو من جنس مخلوقات الله تعالى، وأنه ليس لكم ولا لغيركم من طوائف البشر امتياز ذاتي خاص ولا نسبة إليه تعالى، لأن جميع خلقه بالنسبة إليه سواء، وقد مضت سنته في البشر بأن يعذبهم في الدنيا بما كسبت أيديهم، ويعفو عن كثير من أعمالهم ويغفرها فلا يعجل لهم العذاب عليها. وذلك بحسب مشيئته المطابقة لعلمه وعدله وحكمته، فإذا كان لكم امتياز ذاتي على جميع البشر فلم يعذبكم بذنوبكم في هذه الدنيا كما يعذب غيركم بذنوبهم؟ وأنتم تعلمون هذا علم اليقين من أنفسكم ومن تاريخكم. والمضارع (يعذبكم) هنا لبيان الشأن المستمر في معاملتهم، فهو يدل على أن هذا التعذيب ثابت في كل زمان متى وقع سببه، ووجدت علته. والكلام في سنة الله في الأمم والشعوب، وتاريخهم فيه كتاريخ غيرهم قبل البعثة وفي زمنها وبعدها: ما عذبت أمة من الأمم بشيء إلا وعذبوا بمثله، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه ولو مجازا بحسب ما بيناه بالشواهد من كتبهم، لما حل بهم ما حل بغيرهم، أو لم تكن لهم ذنوبهم يعذبون بها كما قال يوحنا (1 يو 3: 9).
إذا فقهت هذه ظهر لك أن إشكال الرازي غير وارد أصلا، فإن الكلام في الأمم والشعوب. وإبطال دعوى أن يكون شعب منها ممتازا عند الله بذاته، لا تجري عليه سننه في سائر خلقه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أن أمته لها مثل هذا الامتياز، وأن كل من انتمى إليها كان من أبناء الله ولا أحبائه مهما عملوا من الأعمال، فيقال: لم غلبوا إذا في غزوة أحد كيف وقد كان فيهم بأحد المنافقون وضعفاء الإيمان؟ يثبت لك هذا ما أنزله الله تعالى في شأن غزوة أحد من الآيات، فقد بين فيها أن ما أصاب المسلمين إنما أصابهم بذنوب بعضهم، إذ خالف الرماة أمر نبيهم وقائدهم، وتنازعوا واختلفوا في أمرهم، وإن الأيام دول، والعاقبة للمتقين، فهم الذين يتعظون بالحوادث فلا يعودون إلى مثل ما عوقبوا به.
وقد قال تعالى في فاتحة سياق هذه القصة {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:137- 141] ثم قال {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152] الخ آية 155 ثم قال {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] الخ.
فأنت ترى أن هذه الآيات تبين لنا سنته تعالى في البشر، وأن الجزاء إنما يكون على الأعمال، لا على الأسماء والألقاب، وهذا هو الذي يصدقه الوجود وتشهد به تواريخ جميع الأقوام والأجيال، غاية الأمر أن شأن أهل الإيمان الصحيح والدين القيم أن يكونوا أعرف بسنن الله تعالى في خلقه، فتكون ذنوبهم التي يعاقبون بها موعظة يتعظون بها، وتمحيصا يكمل نفوسهم بالعبر، ويعلي شأنها وأن يكونوا من المتقين لكل ما جعله الله سببا للخيبة والخسران، كالظلم والبغي والعدوان، والتنازع والتفرق والغرور وعدم النظام. وبهذا يكونون من أحباء الله تعالى ويكون ما حل بهم من قبيل تربية الوالد لولده، ولا يحسن أن يسمى تعذيبا، لأن مرارة الدواء الذي يشفيك من السقم، ليس كالسوط الذي لا يصيبك منه إلا الألم.
ومن راجع تفسير هذه الآيات في الجزء الرابع من تفسيرنا هذا يتجلى له الحق في ذلك تمام التجلي. ولكن المسلمين لم يعتصموا بهذا البيان، فيتقوا غرور أهل الكتاب، بل اتبعوا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، إلى أن آل الأمر إلى ضد ما كان، فترك جماهير أهل الكتاب ذلك الغرور بدينهم، واهتدوا بسنن الله في الأمم والدول التي كانت قبلهم، فساروا عليها في سياسة ملكهم...وبقي من اتبعوا سننهم من المسلمين، ثابتين على تقليد أولئك المخذولين، وفتن بعضهم بالمتأخرين المعتبرين، ولكنهم ما احتذوا مثالهم في أمر الدنيا ولا رجعوا في مثله إلى هدي الدين، {وما يتذكر إلا من ينيب} [غافر:13].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
واليهود والنصارى يقولون: إنهم أبناء الله وأحباؤه:
(وقالت اليهود والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه)..
فزعموا لله -سبحانه- أبوة، على تصور من التصورات، إلا تكن أبوة الجسد فهي أبوة الروح. وهي أيا كانت تلقي ظلا على عقيدة التوحيد؛ وعلى الفصل الحاسم بين الألوهية والعبودية. هذا الفصل الذي لا يستقيم التصور، ولا تستقيم الحياة، إلا بتقريره. كي تتوحد الجهة التي يتوجه إليها العباد كلهم بالعبودية؛ وتتوحد الجهة التي تشرع للناس؛ وتضع لهم القيم والموازين والشرائع؛ والقوانين، والنظم والأوضاع، دون أن تتداخل الاختصاصات، بتداخل الصفات والخصائص، وتداخل الألوهية والعبودية.. فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب، إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف!
واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، كانوا يقولون -تبعا لهذا- إن الله لن يعذبهم بذنوبهم! وإنهم لن يدخلوا النار -إذا دخلوا- إلا أياما معدودات. ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه! وأنه سبحانه -يحابي فريقا من عباده، فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الاخرين! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور؟ وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف؟
وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور، وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة، ويقرر عدل الله الذي لا يحابي؛ كما يقرر بطلان ذلك الادعاء:
(قل: فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء)..
بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان. يقرر بطلان ادعاء البنوة؛ فهم بشر ممن خلق. ويقرر عدل الله وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد. على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه. لا بسبب بنوة أو صلة شخصية!
ثم يكرر أن الله هو المالك لكل شيء، وأن مصير كل شيء إليه:
(ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير).
والمالك غير المملوك. تتفرد ذاته- سبحانه -وتتفرد مشيئته، ويصير إليه الجميع..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مقال آخر مشترك بينهم وبين اليهود يدلّ على غباوتهم في الكفر إذ يقولون ما لا يليق بعظمة الله تعالى، ثمّ هو مناقض لمقالاتهم الأخرى. عُطف على المقال المختصّ بالنصارى، وهو جملة {لقد كَفَر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح} [المائدة: 17]
... وقد علَّم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقْضَيْن: أولهما من الشريعة، وهو قوله {قل فلِمَ يعذّبكم بذنوبكم} يعنِي أنّهم قائلون بأنّ نصيباً من العذاب ينالهم بذنوبهم، فلو كانوا أبناء الله وأحبّاءه لما عذّبهم بذنوبهم، وشأن المحبُّ أن لا يعذّب حبيبه وشأن الأب أن لا يعذّب أبناءه. رُوي أنّ الشِّبْلي سأل أبا بكر بن مجاهد: أين تَجد في القرآن أنّ المُحبّ لا يعذِّب حبيبَه فلم يهتد ابن مجاهد، فقال له الشبلي في قوله: {قل فلِم يعذّبكم بذنوبكم}. وليس المقصود من هذا أنّ يَردّ عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر، مِن تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم، لأنّ ذلك لا يعترفون به فلا يصلح للردّ به، إذ يصير الردّ مُصَادَرَة، بل المقصود الردّ عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم، سواء كان عذاب الآخرة أم عذاب الدّنيا. فأمّا اليهود فكُتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: {وقالوا لَنْ تمسّنا النّار إلاّ أيّاماً معدودة} [البقرة: 80]. وأمّا النّصارى فلم أر في الأناجيل ذكراً لِعذاب الآخرة إلاّ أنّهم قائلون في عقائدهم بأنّ بني آدم كلّهم استحقّوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم، فجاء عيسى ابن مريم مخلّصاً وشافعاً وعرّض نفسه للصلب ليكفّر عن البشر خطيئتهم الموروثة، وهذا يُلزمهم الاعترافَ بأنّ العذاب كان مكتوباً على الجميع لولا كفّارة عيسى فحصل الرّدّ عليهم باعتقادهم به بله اعتقادنا.
ثم أُخذت النتيجةُ من البرهان بقوله: {بل أنتم بشر ممّن خلق} أي يَنالكم ما ينال سائر البشر. وفي هذا تعريض أيضاً بأنّ المسيح بَشَر، لأنّه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف، وزعموا أنّه ناله الصلب والقتل.