اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

واعلم : أنَّ اليَهُود والنَّصَارى لا يقُولُون ذلك ؛ فَلِهَذا ذكر المُفَسِّرُون{[11287]} وُجُوهاً :

أحدها : أنَّ هذا من باب حَذْفِ المُضَاف ، أي : نحن أبناءُ رُسُلِ الله ، كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] .

الثاني : أن لَفْظَ الابْنِ كما يُطلَقُ على ابن الصَّلْب ، قد يُطْلَق - أيضاً - على من يتَّخِذُ أبْنَاء ، بمعنى تَخْصِيصه بِمَزيدِ الشَّفقة والمحبَّة ، فالْقَوْم لما ادَّعَوْا عِنَاية الله بِهِم ، ادَّعَوْا [ أنَّهُمْ أبْنَاءُ لِلَّه ]{[11288]} .

الثالث : أنَّ اليهود زَعَمُوا أنَّ العُزَيْرَ [ ابْن اللَّه ]{[11289]} ، والنَّصَارى زَعَمُوا أنَّ المسيح ابن الله ، ثم زَعَمُوا أنَّ العُزَيْرَ والمسيحَ كانَا مِنهُم كأنَّهمُ قالوا : نَحْنُ أبْنَاء الله ، ألا تَرَى أنَّ أقارِبَ المَلكِ إذا فاخَرُوا أحَداً يقولون : نَحْنُ مُلُوك الدُّنْيَا ، والمُرادُ : كَوْنهُم{[11290]} مُخْتَصِّينَ بالشَّخْصِ الذي هو الملك ، فكذا هَا هُنَا .

الرابع : قال ابن عبَّاسٍ{[11291]} : إن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا جماعَةً من اليَهُودِ إلى دين الإسْلام ، وخوَّفهم بِعِقَاب اللَّه تعالى ، فقَالُوا كيف تُخَوِّفُنَا بِعِقَاب الله ونَحْنُ أبْنَاء الله وأحِبَّاؤُه{[11292]} ، فهذه الرِّواية [ إنما ]{[11293]} وقعت عن تلك الطَّائِفَة .

وأما النَّصارى فإنَّهُم يتلون في الإنجيل أنَّ المسيح قال لَهُم : أذهب إلى أبِي وأبيكُمْ ، وقيل : أرَادُوا أن اللَّه تعالى كالأبِ لنا في الحُنُوِّ والعَطْفِ ، ونحن كالأبْنَاء [ له ] في القُرْبِ والمَنْزِلَة .

وقال إبْراهيم النَّخْعِي : إنَّ اليَهُود وجدوا في التَّوْرَاة ، يا أبناء [ أحْبَاري ، فَبَدَّلوا يا أبناء ]{[11294]} أبْكَارِي فمن ذلك قالوا : { نَحْنُ أبْنَاءُ اللَّهِ وأحِبَّاؤُهُ } ، وجملة الكلام أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يَرَوْنَ لأنْفُسِهِم فَضْلاً على سَائِر الخَلْقِ ، بسبب أسْلافِهِم الأنْبِيَاء إلى أن ادَّعَوْا ذلك .

قوله تعالى : " فَلِمَ يُعَذِّبكُمْ " هذه الفاء جوابُ شرط مقدَّر ، وهو ظاهرُ كلام الزَّمَخْشَرِي ، فإنَّهُ قال : فإن صَحْ أنكم{[11295]} أبْنَاء اللَّه وأحِبَّاؤُه فلم تُذْنِبُون وتُعذَّبُون ؟ ويجُوزُ أن يكُون الكلامُ كالفَاءِ قَبْلَها في كَوْنِها عَاطِفَة على جُمْلةٍ مُقَدَّرة ، أي : كَذَبْتُم فلم يُعَذِّبكُم ، و " الباءُ " في " بِذُنُوبِكُم " سببية ، و " مِمَّنْ خَلَقَ " صِفَة ل " بَشَر " فهو في مَحَلِّ رفع مُتعلِّق بِمَحْذُوف .

فإن قيل : القَوْمَ إما أن يدعُوا أنَّ الله عَذَّبَهُم في الدُّنْيَا أو يدَّعُوا أنَّه سيُعَذِّبُهُم في الآخِرَة ، فإن كان مَوْضِع الإلْزَامِ عَذَاب الدُّنْيَا ، فهذا لا يقْدَحُ في ادِّعَائِهِم كونهم أحِبَّاءُ الله ؛ لأنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم كان يدعى هو وأمَّتهُ أحِبَّاء الله ، ثم إنَّهُم ما خَلَوْا عن مَحِنِ الدُّنْيَا كما في وَقْعَةِ أحُد وغَيْرها ، وإن كان مَوْضِعُ الإلْزَام هو أنَّهُ تعالى سيُعَذِّبُهُم في الآخِرة ، فالقَوْمُ يُنْكِرُون ذلك ، ومجرد إخْبَارِ مُحَمَّد - عليه السلام - ليس بكافٍ في هذا البَابِ ، فكان هذا اسْتِدْلالاً ضَائِعاً .

الجواب : من وُجُوه :

أحدُها : أنَّ موضع الإلْزَام هو عَذَابُ الدُّنْيَا ، والمعارَضَةُ بِيَوم أُحُدٍ غير لازِمَة ؛ لأنَّا نَقُول : لو كانوا أبْنَاء الله وأحِباءهُ ، لِمَ عذَّبَهُم في الدُّنيا ؟ ومَحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - إنَّما ادَّعى أنَّه من أحِبَّاء الله ولم يَدَّع أنَّهُ من أبْنَاء اللَّه .

الثاني : أنَّ موضع الإلْزَام عذاب الآخِرَة ، واليَهُود والنَّصَارى كانوا مُعْتَرِفِين بِعَذَاب الآخِرَة ، كما أخْبَر اللَّه عَنْهُم أنَّهُم قالوا : { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً }

[ البقرة : 80 ] .

الثالث : أن قوله : " فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ " أي : لِمَ عَذَّبَ من قَبْلَكُمْ بذنوبهم فَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً وخَنَازِير ، إلاَّ أنَّهُم لما كانوا من جِنْسِ أولَئِكَ المُتَقَدِّمِين ، حسنت{[11296]} هذه الإضَافَةُ وهذا أوْلَى ؛ لأنَّهُ تعالى لم يَكُنْ لِيَأمُر رسُوله - عليه الصلاة والسلام - أن يحتَجَّ عليهم بِشَيءٍ لم يَدْخُل بَعْدُ في الوُجُود .

قال تعالى : { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } كسائر بَنِي آدَم يُجْزَوْنَ بالإحْسَان والإسَاءَة ، { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } : فضلاً ، { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } : عدلاً ، ليس لأحَد عليه [ حقٌّ يوجبُ عليه ]{[11297]} أن يغفر له ، يَفْعَلُ ما يَشَاءُ ، ويَحْكُم ما يُرِيدُ .

ومذهب المُعْتَزِلَة{[11298]} : أنَّ كُلَّ من أطَاعَ الله واحْتَرَز عن الكَبَائِرِ ، فإنَّه يجب على الله عقلاً إيصال الرَّحْمة والنِّعْمة إليه أبدَ الآبَاد ، ولو قطع عَنْه تلك النِّعْمة لحظةً واحِدَة لبَطَلَتِ الإلهيَّة ، وهذا أعْظَمُ من قول اليَهُود والنَّصَارى نَحْنُ أبْنَاءُ الله وأحِبَّاؤُه .

كما أنَّ قوله : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } إبطالاً لِقَوْلِ اليَهُود ، فبأن يكون إبْطَالاً لِقَوْل{[11299]} المُعْتَزِلَة أوْلَى .

ثم قال تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } يعني : من كان هكذا أو قُدْرَته هكذا ، كيف يستحق البَشَرُ الضَّعِيفُ عليه حقاً واجباً ؟ وكيف يَمْلِكُ عليه الجَاهِلُ بعبادته{[11300]} النَّاقِصَة دَيْناً لازِماً ؟ { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [ الكهف : 5 ] .

ثم قال : " وَإلَيْه المَصِيرُ " أي : وإليه يَؤُول أمْر الخَلْقِ ؛ لأنَّه لا يملك الضَّرَّ والنَّفْع هُنَاك إلاَّ هو .


[11287]:ينظر: تفسير الرازي 11/152.
[11288]:أنه ابنا الله.
[11289]:سقط في أ.
[11290]:في أ: كأنهم.
[11291]:ينظر: تفسير الرازي 11/152.
[11292]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/505) وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/476) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "الدلائل".
[11293]:سقط في ب.
[11294]:سقط في أ.
[11295]:في أ: أنهم.
[11296]:في أ: حيث.
[11297]:سقط في أ.
[11298]:ينظر: تفسير الرازي 11/153.
[11299]:في أ: لقوله.
[11300]:في ب: لعمادته.