البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } ظاهر اللفظ أن جميع اليهود والنصارى قالوا عن جميعهم ذلك وليس كذلك ، بل في الكلام لف وإيجاز .

والمعنى : وقالت كل فرقة من اليهود والنصارى عن نفسها خاصة : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقالت اليهود : ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء .

والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة .

وما ذكروا من أن الله أوحى إلى إسرائيل أنّ أولادك بكري فضلوا بذلك .

وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، لا يصح .

ولو صحّ ما رووا ، كان معناه بكراً في التشريف والنبوة ونحو ذلك .

وجعل الزمخشري قولهم : أبناء الله ، على حذف مضاف ، وأقيم هذا مقامه أي : نحن أشياع الله ابني الله عزير والمسيح ، كما قيل لأشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبيون ، وكما كان يقول رهط مسلمة : نحن أبناء الله ، ويقول أقرباء الملك وحشمه : نحن الملوك .

وأحباؤه جمع حبيب فعيل بمعنى مفعول ، أي محبوبوه ، أجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو : لبيب وألباء .

وقائل هذه المقالة : بعض اليهود الذين كانوا بحضرة الرسول ، فنسب إلى الجميع لأنّ ما وقع من بعض قد ينسب إلى الجميع .

قال الحسن : يعنون في القرب منه أي : نحن أقرب إلى الله منكم له ، يفخرون بذلك على المسلمين .

قال ابن عياش : هم طائفة من اليهود خوفهم الرسول عقاب الله فقالوا : أتخوفنا بالله ونحن أبناء الله وأحباؤه ؟ وروي أيضاً عن ابن عباس : أن يهود المدينة كعب بن الأشرف وغيره من نصارى نجران السيد والعاقب ، خاصموا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعيرهم الصحابة بالكفر وغضب الله عليهم ، فقالت اليهود : إنما غضب الله علينا كما يغضب الرّجل على ولده ، نحن أبناء الله وأحباؤه .

هذا قول اليهود ، وأما النصارى فإنهم زعموا أنّ عيسى قال لهم : اذهبوا إلى أبي وأبيكم .

{ قل فلم يعذبكم بذنوبكم } أي إن كنتم كما زعمتم ، فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ وكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن : نحن ندخل النار فنقيم فيها أربعين يوماً ، ثم تخلفوننا فيها .

والمعنى : لو كانت منزلتكم منه فوق منزلة البشر لما عذبكم ، وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم ، وهذا على أنّ العذاب هو في الآخرة .

ويحتمل أن يريد به العذاب في الدّنيا بمسخ آبائهم على تعديهم في السبت ، وبقتل أنفسهم على عبادة العجل ، وبالتيه على امتناعهم من قتال الجبارين ، وبافتضاح من أذنب منهم بأن يصبح مكتوباً على بابه ذنبه وعقوبته عليه فتنفذ فيهم ، والإلزام بكلا التعذيبين صحيح .

أما الأول فلإقرارهم أن ذلك سيقع ، وأما الآخر فلوقوع ذلك فيما مضى لا يمكن إنكار شيء منه .

والاحتجاج بما وقع أقوى .

وخرَّج الزمخشري التعذيبين : الدنيوي ، والأخروي في كلامه ، وأشرب تفسير الآية بشيء من مذهبه الاعتزالي ، وحرف التركيب القرآني على عادته ، فقال : إن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه ، فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون ، وتمسكم النار في أيام معدودات على زعمكم ؟ ولو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب غير فاعلين للقبائح ، ولا مستوجبين للعذاب .

ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه ، ولما عاقبكم انتهى .

ويظهر من قوله : ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه ، أن يكون أحباؤه جمع حبيب بمعنى محب ، لأن المحب لا يعصي من يحبه ، بخلاف المحبوب فإنه كثيراً ما يعصي محبه .

وقال القشيري : البنوّة تقتضي المحبة ، والحق منزه عنها ، والمحبة التي بين المتجانسين تقتضي الاختلاط والمؤانسة ، والحق مقدس عن ذلك ، والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضاً للقديم ، والقديم لا بعض له ، لأن الأحدية حقه ، وإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد ، وإذا لم يكن له ولد لم يجز على الوجه الذي اعتقدوه أن بينهم وبينه محبة .

{ بل أنتم بشر ممن خلق } أضرب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلال آخر من ثبوت كونهم بشراً من بعض من خلق ، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث ، وهما يمنعان البنوة .

فإنّ القديم لا يلد بشراً ، والأب لا يخلق ابنه ، فامتنع بهذين الوجهين البنوة ، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله ، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما .

{ يغفر لمن يشاء } أي يهديه للإيمان فيغفر له .

{ ويعذب من يشاء } أي يورطه في الكفر فيعذبه ، أو يغفر لمن يشاء وهم أهل الطاعة ، ويعذب من يشاء وهم العصاة .

قاله الزمخشري .

وفيه شيء من دسيسة الاعتزال ، لأنّ من العصاة عندنا من لا يعذبه الله تعالى بل يغفر له .

وقيل : المعنى أنه ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له ، أو يمنعه أن يعذبه ، ولذلك عقبه بقوله :

{ ولله ملك السموات والأرض وما بينهما } فله التصرف التام يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه .

{ وإليه المصير } أي الرجوع بالحشر والمعاد