فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ( 18 ) }

{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزير حيث قالوا عزير ابن الله ، وأثبتت النصارى لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا المسيح ابن الله ، وقيل هو على حذف مضاف أي نحن أتباع أبناء الله ، وقيل أبناء أنبياء الله ، ونظيره { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } قاله الكرخي .

وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعاوي الباطلة والأماني العاطلة ، فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فقال : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } أي إن كنتم كما تزعمون فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل والمسخ ، وبالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك بقولكم : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } فإن الابن من جنس أبيه لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب ، وأنتم تذنبون والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم تعذبون ، فهذا يدل على أنكم كاذبون في هذه الدعوى ، وهذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف .

وأخرج أحمد في مسنده عن أنس قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ، فسعت فأخذته فقال القوم : يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ، والله لا يلقي حبيبه في النار ، وإسناده في المسند هكذا : حدثنا ابن عدي عن حميد عن أنس فذكره{[611]} .

ومعنى الآية يشير إلى معنى هذا الحديث ، ولهذا قال بعض مشايخ الصوفية لبعض الفقهاء أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ، فلم يرد عليه فتلا الصوفي هذه الآية .

وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا والله لا يعذب الله حبيبه ولكن الله قد يبتليه في الدنيا .

{ بل أنتم بشر ممن خلق } عطف على مقدر يدل عليه الكلام أي فلستم حينئذ كذلك بل أنتم بشر من جنس من خلقه الله تعالى يحاسبهم على الخير والشر ، ويجازي كل عامل بعمله .

{ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } قال السدي : أي يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه لا اعتراض عليه لأنه القادر الفعال بالإختيار .

{ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } من الموجودات لا شريك له في ذلك فيعارضه ، وفيه دليل على أنه تعالى لا ولد له ، لأن من يملك السماوات والأرض يستحيل أن يكون له شبيه من خلقه أو شريك في ملكه { وإليه المصير } أي تصيرون إليه وحده عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة .


[611]:روى ابن ماجة نظيره في الزهد/35. ورد ورواه الإمام أحمد بن حنبل في المسند3/104.