نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

لما عم سبحانه في ذكر فضائح بني إسرائيل تارة{[24837]} ، وخص أخرى ، عم بذكر طامة من طوامهم{[24838]} ، حملهم عليها العجب والبطر بما أنعم الله به عليهم ، فقال : { وقالت اليهود والنصارى } أي كل طائفة قالت ذلك على حدتها خاصة لنفسها دون الخلق أجمعين { نحن أبناؤا الله } أي بما هو ناظر إلينا به من جميع صفات الكمال { وأحباؤه } أي غريقون في كل من الوصفين - كما يدل عليه العطف بالواو ، ثم شرع ينقض هذه الدعوى نقضاً بعد نقض على تقدير كون البنوة على حقيقتها أو مجازها ، و{[24839]} الذي أورثهم هذه الشبهة{[24840]} - إن لم يكونوا قالوا ذلك عناداً - أن{[24841]} في موضع من التوراة عن قول الله تعالى لموسى عليه السلام : شعبي بكري{[24842]} ، وقال{[24843]} في أول{[24844]} نبوة موسى عليه السلام{[24845]} - كما ذكرته في الأعراف{[24846]} : وقل لفرعون : هكذا{[24847]} يقول الرب : ابني بكري{[24848]} إسرائيل أرسل{[24849]} ليعبدني ، فإن أبيت أن ترسل ابني فإني أقتل ابنك بكرك - ونحو هذا ؛ وفي كثير مما بين أيديهم من الإنجيل عن قول عيسى عليه السلام : افعلوا كذا لتكونوا بني أبيكم الذي في السماء - ونحو ذلك ، وقد بينت معناه على تقدير صحته بما يوجب رده إلى المحكم بلا شبهة في أول سورة آل عمران ؛ قال البيضاوي في أول سورة الكهف : إنهم كانوا يطلقون الأب والابن في تلك الأديان بمعنى المؤثر والأثر ، وقال في البقرة في تفسير

{ بديع السماوات{[24850]} }[ البقرة : 117 ] : أنهم كانوا يطلقون الأب{[24851]} على الله باعتبار أنه السبب الأصلي ، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فلذاك{[24852]} كفر قائله ومنع منه منعاً مطلقاً انتهى{[24853]} . فأول نقض نقض به سبحانه وتعالى هذه الدعوى بيان أنه يعذبهم فقال : { قل فلم يعذبكم } أي إن كنتم جامعين بين كونكم أبناء وأحباء{[24854]} بين عطف النبوة وحنو المحبة{[24855]} { بذنوبكم } وعذابهم مذكور في نص توراتهم في غير موطن{[24856]} ومشهور في تواريخهم بجعلهم قردة وخنازير وغير ذلك ، أي فإن كان المراد بالبنوة الحقيقة{[24857]} فابن{[24858]} الإله لا يكون له ذنب{[24859]} فضلاً عن أن يعذب به ، لأن الابن لا يكون إلا من جنس الأب{[24860]} - تعالى الله عن النوعية والجنسية والصاحبة والولد علواً كبيراً ! وإن كان{[24861]} المراد المجاز ، أي بكونه يكرمكم إكرام الولد والحبيب ، كان ذلك مانعاً من التعذيب .

ولما كان معنى ذلك أن يعذبكم{[24862]} لأنكم لستم{[24863]} أبناء ولا{[24864]} أحباء ، عطف عليه نقضاً آخر أوضح من الأول فقال : { بل أنتم بشر ممن خلق } وذلك أمر مشاهد ، والمشاهدات من أوضح الدلائل ، فأنتم مساوون لغيركم في البشرية والحدوث ، لا مزية لأحد منكم على غيره في الخلق والبشرية ، وهما يمنعان البنوة ، فإن القديم لا يلد بشراً ، والأب لا يخلق ابنه ، فامتنع بهذين الوصفين البنوة ، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله ؛ فبطل الوصفان اللذان ادعوهما . {[24865]}

ولما كان التقدير : يفعل بكم ما يفعل بسائر خلقه ، وصل به قوله جواباً لمن يقول : و{[24866]} ما هو فاعل بمن خلق ؟ : { يغفر لمن يشاء } أي من خلقه منكم ومن غيركم فضلاً منه تعالى { ويعذب من يشاء } عدلاً كما تشاهدونه{[24867]} يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين .

ولما كان التقدير : لأنه مالك خلقه وملكهم لا اعتراض عليه في شيء من أمره{[24868]} ، عطف عليه قوله نقضاً{[24869]} ثالثاً بما هو أعم مما قبله فقال : { ولله } أي الذي له الأمر كله ، فلا كفوء له { ملك السماوات } وقدمها لشرفها دلالة على ملك غيرها من باب أولى ، وصرح بقوله : { والأرض وما بينهما } أي وأنتم مما بينهما ، وقد اجتمع بذلك مع المُلكِ والإبداعِ المِلكُ و{[24870]} التصريف والتصرف التام ، وذلك هو الغنى المطلق ، ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء من ولد ولا غيره ، ولا يكون لأحد عليه حق ، ولا يسوغ عليه اعتراض .

ولما كان التقدير : فمنه وحده{[24871]} الابتداء ، عطف عليه قوله : { وإليه } أي وحده { المصير * } أي الصيرورة والرجوع وزمان ذلك ومكانه معنى في الدنيا بأنه لا يخرج شيء عن مراده ، وحساً في الآخرة ، فيحكم بين مصنوعاته على غاية العدل - كما هو مقتضى الحكمة وشأن كل ملك في إقامة ملكه بإنصاف بعض عبيده من بعض ، لا يجوز عنده في موجب السياسة إطلاق قويهم على ضعيفهم ، فإن ذلك يؤدي إلى خراب الملك وضعف الملك{[24872]} ، فإذا كان هذا شأن الملوك في{[24873]} العبيد الناقصين فما ظنك{[24874]} بأحكم الحاكمين ! فإذا{[24875]} عاملهم كلهم بالعدل أسبغ على من يريد ملابس{[24876]} الفضل


[24837]:سقط من ظ.
[24838]:في ظ: طوابهم.
[24839]:سقط من ظ.
[24840]:في ظ: الشبة- كذا.
[24841]:سقط من ظ.
[24842]:من ظ، وفي الأصل: بكر.
[24843]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[24844]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[24845]:زيدت الواو بعده في الأصل، ولم تكن في ظ فحذفناها.
[24846]:زيد من ظ.
[24847]:في ظ: هذا.
[24848]:من ظ، وفي الأصل: بكر.
[24849]:سقط من ظ.
[24850]:آية 117.
[24851]:من ظ، وفي الأصل: الابن.
[24852]:في ظ: ولذلك.
[24853]:زيد من ظ، وزيد بعده أيضا: قال.
[24854]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[24855]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[24856]:في ظ: موطن.
[24857]:في الأصل: الحقيقية، وفي ظ: والحقيقية.
[24858]:من ظ، وفي الأصل: فإن.
[24859]:زيد من ظ.
[24860]:في ظ: الابن- كذا.
[24861]:زيد من ظ.
[24862]:في ظ: إنكم لست.
[24863]:في ظ: إنكم لست.
[24864]:سقط من ظ.
[24865]:في ظ: ادعاهما.
[24866]:سقط من ظ.
[24867]:في ظ: يشاهدونه- كذا.
[24868]:من ظ، وفي الأصل: أمرهم.
[24869]:في ظ: بقضا- كذا.
[24870]:سقط من ظ.
[24871]:سقط من ظ.
[24872]:زيد من ظ.
[24873]:في ظ: من.
[24874]:في ظ: ظنكم.
[24875]:في ظ: وإذا.
[24876]:في ظ: تلابس.