قوله تعالى : { وأخرى لم تقدروا عليها } أي وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها ، { قد أحاط الله بها } حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى تأخذوها ، قال ابن عباس : علم الله أنه يفتحها لكم . واختلفوا فيها ، فقال ابن عباس ، والحسن ، ومقاتل ، هي فارس والروم ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم ، بل كانوا خولاً لهم حتى قدروا عليها بالإسلام . وقال الضحاك وابن زيد : هي خيبر ، وعدها الله نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها ، ولم يكونوا يرجونها . وقال قتادة : هي مكة . وقال عكرمة : حنين ، وقال مجاهد : ما فتحوا حتى اليوم . { وكان الله على كل شيء قديراً* }
كذلك يمن عليهم ويبشرهم بأخرى غير هذه . لم يقدروا عليها بقوتهم ، ولكن الله تولاها عنهم بقدرته وتقديره : ( وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ، وكان الله على كل شيء قديرا ) . .
وتختلف الروايات في هذه الأخرى . أهي فتح مكة ? أهي فتح خيبر ? أهي فتوح مملكتي كسرى وقيصر ? أهي فتوح المسلمين التي تلت هذه الوقعة جميعا ?
وأقرب ما يناسب السياق أن تكون هي فتح مكة . بعد صلح الحديبية وبسبب من هذا الصلح . الذي لم يدم سوى عامين ، ثم نقضه المشركون ، ففتح الله مكة للمسلمين بلا قتال تقريبا . وهي التي استعصت عليهم من قبل ، وهاجمتهم في عقر دارهم ، وردتهم عام الحديبية . ثم أحاط الله بها ، وسلمها لهم بلا قتال - ( وكان الله على كل شيء قديرا ) . . فهذه بشرى ملفوفة في هذا الموضع ، لم يحددها لأنها كانت عند نزول هذه الآية غيبا من غيب الله . أشار إليه هذه الإشارة لبث الطمأنينة والرضى والتطلع والاستبشار .
وقوله : وأُخْرَى لم تَقْدِروا عليها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِهَا يقول تعالى ذكره ووعدكم أيها القوم ربكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا على فتحها ، قد أحاط الله بها لكم حتى يفتحها لكم .
واختلف أهل التأويل في هذه البلدة الأخرى ، والقرية الأخرى التي وعدهم فتحها ، التي أخبرهم أنه محيط بها ، فقال بعضهم : هي أرض فارس والروم ، وما يفتحه المسلمون من البلاد إلى قيام الساعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، قال : حدثنا شعبة ، عن سِماك الحنفيّ ، قال : سمعت ابن عباس يقول : وأُخْرَى لم تَقْدِرُوا عَلَيْها فارس والروم .
قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى أنه قال في هذه الآية : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال : فارس والروم .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : حدثنا شعبة بن الحَجاج ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها قال : حُدّث عن الحسن ، قال : هي فارس والروم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ما فتحوا حتى اليوم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى ، في قوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال : فارس والروم .
وقال آخرون : بل هي خيبر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها . . . الآية ، قال : هي خيبر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها يعني خيبر ، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ، فقال : «لا تُمَثّلُوا وَلا تَغُلّوا ، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدا » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها قال : خيبر ، قال : لم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها حتى أخبرهم الله بها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يعني أهل خيبر .
وقال آخرون : بل هي مكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها كنا نحدّث أنها مكة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال : بلغنا أنها مكة .
وهذا القول الذي قاله قتادة أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها ، ومعقولٌ أنه لا يقال لقوم لم يقدروا على هذه المدينة ، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذّرت عليهم ، فأما وهم لم يروموها فتتعذّر عليهم فلا يقال : إنهم لم يقدروا عليها .
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه خيبر لحرب ، ولا وجه إليها لقتال أهلها جيشا ولا سرية ، علم أن المعنيّ بقوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها غيرها ، وأنها هي التي قد عالجها ورامها ، فتعذّرت فكانت مكة وأهلها كذلك ، وأخبر الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أحاط بها وبأهلها ، وأنه فاتحها عليهم ، وكان الله على كلّ ما يشاء من الأشياء ذا قُدرة ، لا يتعذّر عليه شيء شاءه .
{ وأخرى } ومغانم أخرى معطوفة على هذه ، أو منصوبة بفعل يفسره { قد أحاط الله بها } مثل قضى ، ويحتمل رفعها بالابتداء لأنها موصوفة وجرها بإضمار رب . { لم تقدروا عليها } بعد لما كان فيها من الجولة . { قد أحاط الله بها } استولى فأظفركم بها وهي مغانم هوازن أو فارس . { وكان الله على كل شيء قديرا } لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء .
هذا من عطف الجملة على الجملة فقوله : { أخرى } مبتدأ موصوف بجملة { لم تقدروا عليها } والخبر قوله : { قد أحاط الله بها } .
ومجموع الجملة عطف على جملة { وعدكم اللَّه مغانم كثيرة } [ الفتح : 20 ] فلفظ { أخرى } صفة لموصوف محذوف دل عليه { مغانم } الذي في الجملة قبلها ، أي هي نوع آخر من المغانم صعبة المنال ، ومعنى المغانم يقتضي غانمين فعلم أنها لهم ، أي غير التي وعدهم الله بها ، أي هذه لم يعدهم الله بها ، ولم نجعل { وأخرى } عطفا على قوله { هذه } [ الفتح : 20 ] عطف المفرد على المفرد إذ ليس المراد غنيمة واحدة بل غنائم كثيرة .
ومعنى { لم تقدروا عليها } : أنها موصوفة بعَدم قدرتكم عليها ، فلما كانت جملة { لم تقدروا عليها } صفة ل { أخرى } لم يقتض مدلول الجملة أنهم حاولوا الحصول عليها فلم يقدروا ، وإنّما المعنى : أن صفتها عدم قدرتكم عليها فلم تتعلّق أطماعكم بأخذها .
والإحاطة بالهمز : جعل الشيء حائطاً أي حافظاً ، فأصل همزته للجعل وصار بالاستعمال قاصراً ، ومعناه : احتوى عليه ولم يترك له منصرفاً فول على شدة القدرة عليه قال تعالى : { لتأتنني به إلا أن يُحاط بكم } [ يوسف : 66 ] أي إلا أن تغلَبوا غلباً لا تستطيعون معه الإتيان به .
فالمعنى : أن الله قدَر عليها ، أي قدر عليها فجعلها لكم بقرينة قوله قبله { لم تقدروا عليها } . والمعنى : ومغانم أخرى لم تقدروا على نيلها قد قدر الله عليها ، أي فأنا لكُمْ إيّاها .
وإلا لم يكن لإعلامهم بأن الله قدر على ما لم يقدروا عليه جدوى لأنهم لا يجهلون ذلك ، أي أحاط الله بها لأجلكم ، وفي معنى الإحاطة إيماء إلى أنها كالشيء المحاط به من جوانبه فلا يفوتهم مكانه ، جعلت كالمخبوء لهم . ولذلك ذُيل بقوله : { وكان اللَّه على كل شيء قديراً } إذ هو أمر مقرر في علمهم .
فعلم أن الآية أشارت إلى ثلاثة أنواع من المغانم : نوع من مغانم موعودة لهم قريبة الحصول وهي مغانم خيبر ، ونوع هو مغانم مرجوة كثيرة غير معين وقت حصولها ، ومنها مغانم يوم حنين وما بعده من الغزوات ، ونوع هو مغانم عظيمة لا يَخطر ببالهم نوالها قد أعدها الله للمسلمين ولعلها مغانم بلاد الروم وبلاد الفرس وبلاد البربر . وفي الآية إيماء إلى أن هذا النوع الأخير لا يناله جميع المخاطبين لأنه لم يأت في ذكره بضميرهم ، وهو الذي تأوله عُمر في عدم قسمة سواد العراق وقرأ قوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم } [ الحشر : 10 ] .