جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَأُخۡرَىٰ لَمۡ تَقۡدِرُواْ عَلَيۡهَا قَدۡ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا} (21)

وقوله : وأُخْرَى لم تَقْدِروا عليها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِهَا يقول تعالى ذكره ووعدكم أيها القوم ربكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا على فتحها ، قد أحاط الله بها لكم حتى يفتحها لكم .

واختلف أهل التأويل في هذه البلدة الأخرى ، والقرية الأخرى التي وعدهم فتحها ، التي أخبرهم أنه محيط بها ، فقال بعضهم : هي أرض فارس والروم ، وما يفتحه المسلمون من البلاد إلى قيام الساعة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، قال : حدثنا شعبة ، عن سِماك الحنفيّ ، قال : سمعت ابن عباس يقول : وأُخْرَى لم تَقْدِرُوا عَلَيْها فارس والروم .

قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى أنه قال في هذه الآية : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال : فارس والروم .

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : حدثنا شعبة بن الحَجاج ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها قال : حُدّث عن الحسن ، قال : هي فارس والروم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ما فتحوا حتى اليوم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى ، في قوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال : فارس والروم .

وقال آخرون : بل هي خيبر . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها . . . الآية ، قال : هي خيبر .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها يعني خيبر ، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ، فقال : «لا تُمَثّلُوا وَلا تَغُلّوا ، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدا » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها قال : خيبر ، قال : لم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها حتى أخبرهم الله بها .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يعني أهل خيبر .

وقال آخرون : بل هي مكة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها كنا نحدّث أنها مكة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال : بلغنا أنها مكة .

وهذا القول الذي قاله قتادة أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها ، ومعقولٌ أنه لا يقال لقوم لم يقدروا على هذه المدينة ، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذّرت عليهم ، فأما وهم لم يروموها فتتعذّر عليهم فلا يقال : إنهم لم يقدروا عليها .

فإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه خيبر لحرب ، ولا وجه إليها لقتال أهلها جيشا ولا سرية ، علم أن المعنيّ بقوله : وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها غيرها ، وأنها هي التي قد عالجها ورامها ، فتعذّرت فكانت مكة وأهلها كذلك ، وأخبر الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أحاط بها وبأهلها ، وأنه فاتحها عليهم ، وكان الله على كلّ ما يشاء من الأشياء ذا قُدرة ، لا يتعذّر عليه شيء شاءه .