قوله عز وجل :{ ولما ورد ماء مدين } وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم ، { وجد عليه أمةً } جماعة { من الناس يسقون } مواشيهم ، { ووجد من دونهم } يعني : سوى الجماعة ، { امرأتين تذودان } يعني : تحبسان وتمنعان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس وتخلو لهما البئر ، قال الحسن : تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس ، وقال قتادة : تكفان الناس عن أغنامهما . وقيل : تمنعان أغنامهما عن أن تشذ وتذهب . والقول الأول أصوبها ، لما بعده ، وهو قوله : { قال } يعني : موسى للمرأتين ، { ما خطبكما } ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس ؟ { قالتا لا نسقي } أغنامنا ، { حتى يصدر الرعاء } قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، وابن عامر : يصدر بفتح الياء وضم الدال على اللزوم ، أي : حتى يرجع الرعاء عن الماء ، وقرأ الآخرون : بضم الياء وكسر الدال ، أي : حتى يصرفوا هم مواشيهم عن الماء ، والرعاء جمع راع ، مثل : تاجر وتجار . ومعنى الآية : لا نسقي مواشينا حتى يصدر الرعاء ، لأنا امرأتان لا نطيق أن نستسقي ، ولا نستطيع أن نزاحم الرجال ، فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض . { وأبونا شيخ كبير } لا يقدر أن يسقي مواشيه ، فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم . واختلفوا في اسم أبيهما ، فقال مجاهد ، والضحاك ، والسدي والحسن : هو شعيب النبي عليه السلام . وقال وهب بن منبه ، وسعيد بن جبير : هو يثرون بن أخي شعيب ، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره ، فدفن بين المقام وزمزم . وقيل : رجل ممن آمن بشعيب . قالوا : فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس . وقال ابن إسحاق : إن موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر ، فسقى غنم المرأتين . ويروى : أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر ، فجاء موسى ورفع الحجر وحده ، وسقى غنم المرأتين . ويقال : إنه نزع ذنوباً واحداً ودعا فيه بالبركة ، فروى منه جميع الغنم . فذلك قوله :{ فسقى لهما ثم تولى إلى الظل }
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } مواشيهم ، وكانوا أهل ماشية كثيرة { وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ } أي : دون تلك الأمة { امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ } غنمهما عن حياض الناس ، لعجزهما عن مزاحمة الرجال وبخلهم ، وعدم مروءتهم عن السقي لهما .
{ قَالَ } لهما موسى { مَا خَطْبُكُمَا } أي : ما شأنكما بهذه الحالة ، { قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } أي : قد جرت العادة أنه لا يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم ، فإذا خلا لنا الجو سقينا ، { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي : لا قوة له على السقي ، فليس فينا قوة ، نقتدر بها ، ولا لنا رجال يزاحمون الرعاء .
( ولما ورد ماء مدين ، وجد عليه أمة من الناس يسقون ، ووجد من دونهم امرأتين تذودان . قال : ما خطبكما ? قالتا : لا نسقي حتى يصدر الرعاء ، وأبونا شيخ كبير . فسقى لهما ، ثم تولى إلى الظل ، فقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) . .
لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين . وصل إليه وهو مجهود مكدود . وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة ، السليمة الفطرة ، كنفس موسى - عليه السلام - وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء ؛ ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء . والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة ، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولا ، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما .
ولم يقعد موسى الهارب المطارد ، المسافر المكدود ، ليستريح ، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف . بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب :
( قالتا : لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) . .
فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود . إنه الضعف ، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال . وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مّنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتّىَ يُصْدِرَ الرّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولَمّا وَرَدَ موسى مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً يعني جماعة مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ نَعَمهم ومواشيهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مِنَ النّاسِ يَسْقونَ يقول : كثرة من الناس يسقون .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله أُمّةً مِنَ النّاسِ قال : أناسا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وقع إلى أمة من الناس يسقون بمدين أهل نَعَم وشاء .
حدثنا عليّ بن موسى وابن بشّار ، قالا : حدثنا أبو داود ، قال : أخبرنا عمران القطان ، قال : حدثنا أبو حمزة عن ابن عباس ، في قوله : وَلمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ قال عليّ بن موسى : قال : مثل ماء جوبكم هذا ، يعني المحدثة . وقال ابن بشار : مثل محدثتكم هذه ، يعني جوابكم هذا .
وقوله : وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرأتَيْنِ تَذُودَانِ يقول : ووجد من دون أمة الناس الذين هم على الماء ، امرأتين تذودان ، يعني بقوله : تَذُودَان تَحبِسان غنمهما يقال منه : ذاد فلان غنمه وماشيته : إذا أراد شيء من ذلك يَشِذّ ويذهب ، فردّه ومنعه يذودها ذَوْدا . وقال بعض أهل العربية من الكوفيين : لا يجوز أن يقال : ذدت الرجل بمعنى : حبسته ، إنما يقال ذلك للغنم والإبل . وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إني لبِعُقْرِ حَوْضِي أذُودُ النّاسَ عَنْهُ بَعَصَايَ » فقد جعل الذّود صلى الله عليه وسلم في الناس ومن الذّود قول سُوَيد بن كُراع :
أبِيتُ عَلى بابِ القَوَافِي كأنّمَا *** أذُودُ بِها سِرْبا مِنَ الوَحْشِ نُزّعا
وَقَدْ سَلَبَتْ عَصَاكَ بَنُو تَمِيمٍ *** فَمَا تَدْرِي بأيّ عَصا تَذُودُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : تَذُودانِ يقول : تحبسان .
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : حدثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس وَوَجَدَ مِنْ دونِهِمُ امْرأتَيْنِ تَذُودانِ يعني بذلك أنهما حابستان .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : امْرأتَيْنِ تَذُودَانِ قال : حابستين .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَوَجَدَ مِنْ دونِهِمْ امْرأتَيْنِ تَذُودَانِ يقول : تحبِسان غنمهما .
واختلف أهل التأويل في الذي كانت عنه تذود هاتان المرأتان ، فقال بعضهم : كانتا تذودان غنمهما عن الماء ، حتى يَصْدُر عنه مواشي الناس ، ثم تسقيان ماشيتهما لضعفهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك قوله : امْرأتَيْنِ تَذُودانِ قال : تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا وتخلو لهما البئر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرأتَيْنِ يعني دون القوم تذودان غنمهما عن الماء ، وهو ماء مدين .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تذودان الناس عن غنمهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَلَما وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرأتَيْنِ تَذُودانِ قال : أي حابستين شاءهما تذودان الناس عن شأنهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه تَذُودانِ قال : تذودان الناس عن غنمهما .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال معناه : تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا من سقي مواشيهم .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لدلالة قوله : ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ على أن ذلك كذلك ، وذلك أنهما شكتا أنهما لا تسقيان حتى يصدر الرعاء ، إذ سألهما موسى عن ذَوْدِهما ، ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس ، كان لا شكّ أنهما كانتا تخبران عن سبب ذودهما عنها الناس ، لا عن سبب تأخر سقيهما إلى أن يُصْدِر الرعاء .
وقوله : قالَ ما خَطْبُكُما يقول تعالى ذكره : قال موسى للمرأتين ما شأنكما وأمركما تذودان ماشيتكما عن الناس ، هلا تسقونها مع مواشي الناس والعرب ، تقول للرجل : ما خَطْبُك : بمعنى ما أمرك وحالك ، كما قال الراجز :
*** يا عَجَبا ما خَطْبُهُ وَخَطْبي ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا العباس ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : أخبرنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : قال لهما : ما خطْبُكُما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وجد لهما رحمة ، ودخلته فيهما خشية ، لما رأى من ضعفهما ، وغَلَبةِ الناس على الماء دونهما ، فقال لهما : ما خطبكما : أي ما شأنكما ؟ .
وقوله : قالَتا لا نَسْقي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ يقول جلّ ثناؤه : قالت المرأتان لموسى : لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء مواشِيَهم ، لأنا لا نطيق أن نسقي ، وإنما نسقي مواشينا ما أفضلَتْ مواشي الرعاء في الحوض ، والرّعاء : جمع راع ، والراعي جمعه رعاء ورُعاة ورعيان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : حدثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : لما قال موسى للمرأتين : ما خَطْبُكُما ؟ قالَتا لا نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ : أي لا نستطيع أن نسقي حتى يسقي الناس ، ثم نَتّبع فضلاتهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قوله : حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ قال : تنتظران تسقيان من فضول ما في الحياض حياض الرعاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قالَتا لا نَسْقِي حتى يُصْدرَ الرّعاءُ امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يقدر أن يمسّ ذلك من نفسه ، ولا يسِقي ماشيته ، فنحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز سوى أبي جعفر القارىء وعامة قرّاء العراق سوى أبي عمرو : يُصْدِر الرّعاءُ بضم الياء ، وقرأ ذلك أبو جعفر وأبو عمرو بفتح الياء من يصدر الرعاء عن الحوض . وأما الآخرون فإنهم ضموا الياء ، بمعنى : أصدر الرعاءُ مواشيهم ، وهما عندي قراءتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ يقولان : لا يستطيع من الكبر والضعف أن يسقَى ماشيته .
وقوله : فَسَقى لَهُما ذُكِرَ أنه عليه السلام فتح لهما عن رأس بئر كان عليها حَجَر لا يطيق رفعه إلا جماعة من الناس ، ثم استسقى فسقى لهما ماشيتهما منه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : فتح لهما عن بئر حجرا على فيها ، فسقى لهما منها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج بنحوه ، وزاد فيه : قال ابن جريج : حجرا كان لا يطيقه إلاّ عشرة رَهْط .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الحجّاج ، عن الحكم ، عن شريح ، قال : انتهى إلى حجر لا يرفعه إلا عشرة رجال ، فرفعه وحده .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : رحمهما موسى حين قالَتا لا نَسْقي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ فأتى إلى البئر فاقتلع صخرة على البئر كان النفر من أهل مَدْيَنَ يجتمعون عليها ، حتى يرفعوها ، فسقى لهما موسى دلوا فأروتا غنمهما ، فرجعتا سريعا ، وكانتا إنما تسقيان من فُضول الحياض .
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس فَسَقَى لَهُما فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرا حتى كانت أوّل الرعاء رِيا ، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : تصدّق عليهما نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فسقى لهما ، فلم يلبث أن أروى غنمهما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أخذ دلوهُما موسى ، ثم تقدّم إلى السقاء بفضل قوّته ، فزاحم القوم على الماء حتى أخّرهم عنه ، ثم سقى لهما .
{ ولما ورد ماء مدين } وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها . { وجد عليه } وجد فوق شفيرها . { أمة من الناس } جماعة كثيرة مختلفين . { يسقون } مواشيهم . { ووجد من دونهم } في مكان أسفل من مكانهم . { امرأتين تذودان } تمنعان أغنامهما عن الماء لئلا تختلط بأغنامهم . { قال ما خطبكما } ما شأنكما تذودان . { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء } تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذرا عن مزاحمة الرجال ، وحذف المفعول لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما ويدعوه إلى السقي لهما ثم دونه . وقرأ أبو عمرو وابن عامر " يصدر " أي ينصرف . وقرئ " الرعاء " بالضم وهو اسم جمع كالرخال . { وأبونا شيخ كبير } كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي فيرسلنا اضطرارا .
فمشى عليه السلام حتى ورد { مدين } أي بلغها ، و «وروده الماء » معناه بلغه لا أنه دخل فيه ، ولفظ «الورود » قد تكون بمعنى الدخول في المورود ، وقد تكون الإطلال عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل فيه فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه ، وهذه الوجوه في اللفظة تتأول في قوله تعالى { وإن منكم إلا واردها }{[9129]} [ مريم : 71 ] ، و { مدين } لا ينصرف إذ هي بلدة معروفة ، و «الأمة » الجمع الكثير ، و { يسقون } معناه ماشيتهم ، و { من دونهم } معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها فوصل إلى «المرأتين » قبل وصوله إلى الأمة وهكذا هما { من دونهم } بالإضافة إليه ، و { تذودان } معناه تمنعان وتحبسان ، ومنه قوله عليه السلام : «ألا ليذادن رجال عن حوضي » الحديث{[9130]} ، وشاهد الشعر في ذلك كثير ، وفي بعض المصاحف «امرأتين حابستين تذودان » ، واختلف في المذود ، فقال عباس وغيره { تذودان } غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء ، وقال قتادة { تذودان } الناس عن غنمهما ، فلما رأى موسى عليه السلام انتزاح المرأتين { قال ما خطبكما } أي ما أمركما وشأنكما ، وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب أو مضطهدٍ أو من يشفق عليه أو يأتي بمنكر من الأمر فكأنه بالجملة في شر فأخبرتاه بخبرهما ، وأن أباهما { شيخ كبير } فالمعنى أنه لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا يقدران على مزاحمة الأقوياء وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى ، وحينئذ تردان ، وقالت فرقة كانت الآبار مكشوفة وكان زحم{[9131]} الناس يمنعهما ، فلما أراد موسى أن يسقي لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى ، فعن هذا الغلب الذي كان منه ، وصفته إحداهما بالقوة ، وقالت فرقة : بل كانت آبارهم على أفواهها حجارة كبار وكان ورود المرأتين تتبع ما في صهاريج الشرب من الفضلات التي تبقى للسقاة وأن موسى عليه السلام عمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة ، قاله ابن زيد ، وقال ابن جريج : عشرة ، وقال ابن عباس : ثلاثون ، وقال الزجاج : أربعون ، فرفعه موسى وسقى للمرأتين ، فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة ، وقيل إن بئرهم كانت واحدة وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات ، وقرأ الجمهور «نسقي » بفتح النون ، وقرأ طلحة «نُسقي » بضمها ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر «حتى يَصدُر » بفتح الياء وضم الدال وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وقتادة ، وقرأ الباقون «يُصدِر » بضم الياء وكسر الدال على حذف المفعول تقديره مواشيهم وحذف المفعول كثير في القرآن والكلام ، وهي قراءة الأعرج وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق وعيسى ، و { الرعاء } جمع راع .
يدل قوله { لما ورد ماء مدين } أنه بلغ أرض مدين ، وذلك حين ورد ماءهم . والورود هنا معناه الوصول والبلوغ كقوله تعالى { وإن منكم إلا واردها } [ مريم : 71 ] . والمراد بالماء موضع الماء . وماء القوم هو الذي تعرف به ديارهم لأن القبائل كانت تقطن عند المياه وكانوا يكنون عن أرض القبيلة بماء بني فلان ، فالمعنى : ولما ورد ، أي عندما بلغ بلاد مدين . ويناسب الغريب إذا جاء ديار قوم أن يقصد الماء لأنه مجتمع الناس فهنالك يتعرف لمن يصاحبه ويضيفه .
و { لما } حرف توقيت وجود شيء بوجود غيره ، أي عندما حل بأرض مدين وجد أمة .
والأمة : الجماعة الكثيرة العدد ، وتقدم في قوله تعالى { كان الناس أمة واحدة } في [ البقرة : 213 ] . وحذف مفعول { يسقون } لتعميم ما شأنه أن يسقى وهو الماشية والناس ، ولأن الغرض لا يتعلق بمعرفة المسقي ولكن بما بعده من انزواء المرأتين عن السقي كما في « الكشاف » تبعاً « لدلائل الإعجاز » ، فيكون من تنزيل الفعل المتعدّي منزلة اللازم ، أو الحذف هنا للاختصار كما اختاره السكاكي وأيده شارحاه السعد والسيد . وأما حذف مفاعيل { تَذُودان لا نسقي فسقى لهما } فيتعين فيها ما ذهب إليه الشيخان . وأما ما ذهب إليه صاحب « المفتاح » وشارحاه فشيء لا دليل عليه في القرآن حتى يقدر محذوف وإنما استفادة كونهما تذودان غنماً مرجعها إلى كتب الإسرائيليين .
ومعنى { من دونهم } في مكان غير المكان الذي حول الماء ، أي في جانب مباعد للأمة من الناس لأن حقيقة كلمة ( دون ) أنها وصف للشيء الأسفل من غيره . وتتفرع من ذلك معان مجازية مختلفة العلاقات ، ومنها ما وقع في هذه الآية . ف ( دون ) بمعنى جهة يصل إليها المرء بعد المكان الذي فيه الساقون . شُبّه المكان الذي يبلغ إليه الماشي بعد مكان آخر بالمكان الأسفل من الآخر كأنه ينزل إليه الماشي لأن المشي يشبه بالصعود وبالهبوط باختلاف الاعتبار .
ويحذف الموصوف ب ( دون ) لكثرة الاستعمال فيصير ( دون ) بمنزلة ذلك الاسم المحذوف .
وحرف { من } مع ( دون ) يجوز أن يكون للظرفية مثل { إذا نُودِي للصلاة من يوم الجمعة } [ الجمعة : 9 ] . ويجوز أن يكون بمعنى ( عند ) وهو معنى أثبته أبو عبيدة في قوله تعالى { لن تُغْنِيَ عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } [ آل عمران : 10 ] . والمعنى : ووجد امرأتين في جهة مبتعدة عن جهة الساقين .
و { تذودان } تطرُدان . وحقيقة الذود طرد الأنعام عن الماء ولذلك سموا القطيع من الإبل الذود فلا يقال : ذدت الناس ، إلا مجازاً مرسلاً ، ومنه قوله في الحديث " فَلَيذادن أقوام عن حوضي " الحديث .
والمعنى في الآية : تمنعان إبلاً عن الماء . وفي التوراة : أن شعيباً كان صاحب غنم وأن موسى رعى غنمه . فيكون إطلاق { تذودان } هنا مجازاً مرسلاً ، أو تكون حقيقة الذود طرد الأنعام كلها عن حوض الماء .
وكلام أيمة اللغة غير صريح في تبيين حقيقة هذا . وفي سفر الخروج : أنها كانت لهما غنم ، والذود لا يكون إلا للماشية . والمقصود من حضور الماء بالأنعام سقيها . فلما رأى موسى المرأتين تمنعان أنعامهما من الشرب سألهما : ما خطبكما ؟ وهو سؤال عن قصتهما وشأنهما إذ حضرا الماء ولم يقتحما عليه لسقي غنمهما .
وجملة { قال ما خطبكما } بدل اشتمال من جملة { ووجد من دونهم امرأتين تذودان } .
والخطب : الشأن والحدث المهم ، وتقدم عند قوله تعالى { قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه } [ يوسف : 51 ] ، فأجابتا بأنهما كرهتا أن تسقيا في حين اكتظاظ المكان بالرعاء وأنهما تستمران على عدم السقي كما اقتضاه التعبير بالمضارع إلى أن ينصرف الرعاء .
والإصدار : الإرجاع عن السقي ، أي حتى يسقي الرعاء ويصدروا مواشيهم ، فالإصدار جعل الغير صادراً ، أي حتى يذهب رعاء الإبل بأنعامهم فلا يبقى الزحام . وصدهما عن المزاحمة عادتهما لأنهما كانتا ذواتي مروءة وتربية زكية .
وقرأ الجمهور { يصدر } بضم الياء وكسر الدال . وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر { يصدر } بفتح حرف المضارعة وضم الدال على إسناد الصدر إلى الرعاء ، أي حتى يرجعوا عن الماء ، أي بمواشيهم لأن وصف الرعاء يقتضي أن لهم مواشي . وهذا يقتضي أن تلك عادتهما كل يوم سقي ، وليس في اللفظ دلالة على أنه عادة .
وكان قولهما { وأبونا شيخ كبير } اعتذاراً عن حضورهما للسقي مع الرجال لعدم وجدانهما رجلاً يستقي لهما لأن الرجل الوحيد لهما هو أبوهما وهو شيخ كبير لا يستطيع ورود الماء لضعفه عن المزاحمة .
واسم المرأتين ( لَيَّا ) و ( صَفُّورة ) . وفي سفر الخروج : أن أباهما كاهن مدْين . وسمّاه في ذلك السفر أول مرة رعْويل ثم أعاد الكلام عليه فسماه يثرون ووصفه بحمي موسى ، فالمسمى واحد . وقال ابن العِبري في « تاريخه » : يثرون بن رعويل له سبع بنات خرج للسقي منهما اثنتان ، فيكون شُعيب هو المسمى عند اليهود يثرون . والتعبير عن النبي بالكاهن اصطلاح . لأن الكاهن يخبر عن الغيب ولأنه يطلق على القائم بأمور الدين عند اليهود . وللجزم بأنه شعيب الرسول جعل علماؤنا ما صدر منه في هذه القصة شرعاً سابقاً ففرعوا عليه مسائل مبنية على أصل : أن شرع من قبلنا من الرسل الإلهيين شرع لنا ما لم يرد ناسخ .
ومنها مباشرة المرأة الأعمال والسعي في طرق المعيشة ، ووجوب استحيائها ، وولاية الأب في النكاح ، وجعل العمل البدني مهراً ، وجمع النكاح والإجارة في عقد واحد ، ومشروعية الإجارة . وقد استوفى الكلام عليها القرطبي . وفي أدلة الشريعة الإسلامية غنية عن الاستنباط مما في هذه الآية إلا أن بعض هذه الأحكام لا يوجد دليله في القرآن ففي هذه الآية دليل لها من الكتاب عند القائلين بأن شرع من قبلنا شرع لنا .
وفي إذنه لابنتيه بالسقي دليل على جواز معالجة المرأة أمور مالها وظهورها في مجامع الناس إذا كانت تستر ما يجب ستره فإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه شرعنا ولم يأت من شرعنا ما ينسخه . وأما تحاشي الناس من نحو ذلك فهو من المروءة والناس مختلفون فيما تقتضيه المروءة والعادات متباينة فيه وأحوال الأمم فيه مختلفة وخاصة ما بين أخلاق البدو والحضر من الاختلاف .
ودخول { لما } التوقيتية يؤذن باقتران وصوله بوجود الساقين . واقتران فعل ( سقى ) بالفاء يؤذن بأنه بادر فسقى لهن ، وذلك بفور وروده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين}... وكان الماء لمدين فنسب إليه، ثم قال: {وجد عليه أمة} يقول: وجد موسى على الماء جماعة {من الناس يسقون} أغنامهم، {ووجد من دونهم امرأتين تذودان} يعني حابستين الغنم لتسقي فضل ماء الرعاء... {قال} لهما موسى: {ما خطبكما} يعني: ما أمركما، {قالتا لا نسقي} الغنم {حتى يصدر الرعاء} بالغنم راجعة من الماء إلى الرعي، فنسقي فضلتهم {وأبونا شيخ كبير} لا يستطيع أن يسقي الغنم من الكبر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ولَمّا وَرَدَ" موسى "مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً "يعني جماعة "مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ" نَعَمهم ومواشيهم...
وقوله: "وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرأتَيْنِ تَذُودَانِ" يقول: ووجد من دون أمة الناس الذين هم على الماء، امرأتين تذودان، يعني بقوله: "تَذُودَان": تَحبِسان غنمهما...
واختلف أهل التأويل في الذي كانت عنه تذود هاتان المرأتان؛ فقال بعضهم: كانتا تذودان غنمهما عن الماء، حتى يَصْدُر عنه مواشي الناس، ثم تسقيان ماشيتهما لضعفهما...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تذودان الناس عن غنمهما...
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال معناه: تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا من سقي مواشيهم.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لدلالة قوله: "ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ" على أن ذلك كذلك، وذلك أنهما شكتا أنهما لا تسقيان حتى يصدر الرعاء، إذ سألهما موسى عن ذَوْدِهما، ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس، كان لا شكّ أنهما كانتا تخبران عن سبب ذودهما عنها الناس، لا عن سبب تأخر سقيهما إلى أن يُصْدِر الرعاء.
وقوله: "قالَ ما خَطْبُكُما" يقول تعالى ذكره: قال موسى للمرأتين ما شأنكما وأمركما تذودان ماشيتكما عن الناس، هلا تسقونها مع مواشي الناس والعرب، تقول للرجل: ما خَطْبُك: بمعنى ما أمرك وحالك؟... عن ابن إسحاق، قال: وجد لهما رحمة، ودخلته فيهما خشية، لما رأى من ضعفهما، وغَلَبةِ الناس على الماء دونهما، فقال لهما: ما خطبكما: أي ما شأنكما؟.
وقوله: "قالَتا لا نَسْقي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ" يقول جلّ ثناؤه: قالت المرأتان لموسى: لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء مواشِيَهم، لأنا لا نطيق أن نسقي، وإنما نسقي مواشينا ما أفضلَتْ مواشي الرعاء في الحوض، والرّعاء: جمع راع، والراعي جمعه رعاء ورُعاة ورعيان... عن ابن إسحاق "قالَتا لا نَسْقِي حتى يُصْدرَ الرّعاءُ"، امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال "وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ" لا يقدر أن يمسّ ذلك من نفسه، ولا يسِقي ماشيته، فنحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا...
وقوله: "وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ" يقولان: لا يستطيع من الكبر والضعف أن يسقي ماشيته.
وقوله: "فَسَقى لَهُما" ذُكِرَ أنه عليه السلام فتح لهما عن رأس بئر كان عليها حَجَر لا يطيق رفعه إلا جماعة من الناس، ثم استسقى فسقى لهما ماشيتهما منه... عن ابن إسحاق، قال: أخذ دلوهُما موسى، ثم تقدّم إلى السقاء بفضل قوّته، فزاحم القوم على الماء حتى أخّرهم عنه، ثم سقى لهما.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} وفي قولهما ذلك وجهان: أحدهما: أنهما قالتا ذلك اعتذاراً إلى موسى عن معاناتهما سقي الغنم بأنفسهما. الثاني: قالتا ذلك ترقيقاً لموسى ليعاونهما.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فمشى عليه السلام حتى ورد {مدين} أي بلغها، و «وروده الماء» معناه بلغه لا أنه دخل فيه، ولفظ «الورود» قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون الإطلال عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل فيه فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه، وهذه الوجوه في اللفظة تتأول في قوله تعالى {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71].
{قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير} وذلك يدل على ضعفهما عن السقي من وجوه؛
أحدها: أن العادة في السقي للرجال، والنساء يضعفن عن ذلك.
وثانيها: ما ظهر من ذودهما الماشية على طريق التأخير.
وثالثها: قولهما حتى يصدر الرعاء.
ورابعها: انتظارهما لما يبقى من القوم من الماء.
وخامسها: قولهما: {وأبونا شيخ كبير} ودلالة ذلك على أنه لو كان قويا حضر ولو حضر لم يتأخر السقي، فعند ذلك سقى لهما قبل صدر الرعاء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فوصل إلى المدينة، بنى عليه قوله: {ولما ورد} أي حضر موسى عليه الصلاة والسلام حضور من يشرب {ماء مدين} أي الذي يستقي منها الرعاء {وجد عليه} أي على الماء {أمة} أي جماعة كثيرة هم أهل لأن يَقْصُدوا ويُقصَدوا، فلذلك هم عالون غالبون على الماء؛ ثم بين نوعهم بقوله: {من الناس} وبين عملهم أيضاً بقوله: {يسقون} أي مواشيهم، وحذف المفعول لأنه غير مراد، والمراد الفعل، وكذا ما بعده فإن رحمته عليه الصلاة والسلام لم تكن لكون المذود والمسقي غنماً بل لمطلق الذياد وترك السقي {ووجد من دونهم} أي وجداناً مبتدئاً من أدنى مكان من مكانهم الآتي إلى الماء {امرأتين} عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنها {تذودان} أي توجدان الذود، وهو الكف والمنع والطرد وارتكاب أخف الضررين، فتكفان أغنامهما إذا نزعت من العطش إلى الملأ لئلا تخلط بغنم الناس.
ولما كان هذا حالاً موجباً للسؤال عنه، كان كأنه قيل: فما قال لهما؟ قيل: {قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام رحمة لهما: {ما خطبكما} أي خبركما ومخطوبكما أي مطلوبكما، وهو كالتعبير بالشأن عن المشؤون الذي يستحق أن يقع فيه التخاطب لعظمة، في ذيادكما لأغنامكما عن السقي؛ قال أبو حيان: والسؤال بالخطب إنما يكون في مصاب أو مضطهد.
ولما كان من المعلوم أن سؤاله عن العلة {قالتا} أي اعتذاراً عن حالهما ذلك؛ وتلويحاً باحتياجهما إلى المساعدة: {لا} أي خبرنا أنا لا {نسقي} أي مواشينا، وحذفه للعلم به {حتى يصدر} أي ينصرف ويرجع {الرعاء} أي عن الماء لئلا يخالطهم...
ولما كان التقدير: لأنا من النساء، وكان المقام يقتضي لصغر سنهما أن لهما أباً، وأن لا إخوة لهما وإلا لكفوهما ذلك، عطفتا على هذا المقدر قولهما: {وأبونا شيخ كبير} أي لا يستطيع لكبره أن يسقي، فاضطررنا إلى ما ترى، وهذا اعتذار أيضاً عن كون أبيهما أرسلهما لذلك...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{ووجد من دونهم} أي: في مكان سواهم أسفل من مكانهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين. وصل إليه وهو مجهود مكدود. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى -عليه السلام- وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء؛ ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولا، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما...
ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر المكدود، ليستريح، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف. بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب:... فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود. إنه الضعف، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يدل قوله {لما ورد ماء مدين} أنه بلغ أرض مدين، وذلك حين ورد ماءهم. والورود هنا معناه الوصول والبلوغ كقوله تعالى {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71]. والمراد بالماء موضع الماء. وماء القوم هو الذي تعرف به ديارهم لأن القبائل كانت تقطن عند المياه وكانوا يكنون عن أرض القبيلة بماء بني فلان، فالمعنى: ولما ورد، أي عندما بلغ بلاد مدين. ويناسب الغريب إذا جاء ديار قوم أن يقصد الماء لأنه مجتمع الناس فهنالك يتعرف لمن يصاحبه ويضيفه...
والأمة: الجماعة الكثيرة العدد، وتقدم في قوله تعالى {كان الناس أمة واحدة} في [البقرة: 213]. وحذف مفعول {يسقون} لتعميم ما شأنه أن يسقى وهو الماشية والناس، ولأن الغرض لا يتعلق بمعرفة المسقي ولكن بما بعده من انزواء المرأتين عن السقي...
ومعنى {من دونهم} في مكان غير المكان الذي حول الماء، أي في جانب مباعد للأمة من الناس لأن حقيقة كلمة (دون) أنها وصف للشيء الأسفل من غيره. وتتفرع من ذلك معان مجازية مختلفة العلاقات، ومنها ما وقع في هذه الآية. ف (دون) بمعنى جهة يصل إليها المرء بعد المكان الذي فيه الساقون. شُبّه المكان الذي يبلغ إليه الماشي بعد مكان آخر بالمكان الأسفل من الآخر كأنه ينزل إليه الماشي لأن المشي يشبه بالصعود وبالهبوط باختلاف الاعتبار... والمعنى: ووجد امرأتين في جهة مبتعدة عن جهة الساقين.
و {تذودان} تطرُدان. وحقيقة الذود طرد الأنعام عن الماء ولذلك سموا القطيع من الإبل الذود فلا يقال: ذدت الناس، إلا مجازاً مرسلاً، ومنه قوله في الحديث "فَلَيذادن أقوام عن حوضي "الحديث.
والمعنى في الآية: تمنعان إبلاً عن الماء... والمقصود من حضور الماء بالأنعام سقيها. فلما رأى موسى المرأتين تمنعان أنعامهما من الشرب سألهما: ما خطبكما؟ وهو سؤال عن قصتهما وشأنهما إذ حضرا الماء ولم يقتحما عليه لسقي غنمهما...
والخطب: الشأن والحدث المهم، وتقدم عند قوله تعالى {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه} [يوسف: 51]، فأجابتا بأنهما كرهتا أن تسقيا في حين اكتظاظ المكان بالرعاء وأنهما تستمران على عدم السقي كما اقتضاه التعبير بالمضارع إلى أن ينصرف الرعاء.
والإصدار: الإرجاع عن السقي، أي حتى يسقي الرعاء ويصدروا مواشيهم، فالإصدار جعل الغير صادراً، أي حتى يذهب رعاء الإبل بأنعامهم فلا يبقى الزحام. وصدهما عن المزاحمة عادتهما لأنهما كانتا ذواتي مروءة وتربية زكية...
وكان قولهما {وأبونا شيخ كبير} اعتذاراً عن حضورهما للسقي مع الرجال لعدم وجدانهما رجلاً يستقي لهما لأن الرجل الوحيد لهما هو أبوهما وهو شيخ كبير لا يستطيع ورود الماء لضعفه عن المزاحمة.