البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ} (23)

ذاذ : طرد ودفع وقال الفراء : حبس .

{ ولما ورد ماء مدين } : أي وصل إليه ، والورود بمعنى الوصول إلى الشيء ، وبمعنى الدخول فيه .

قيل : وكان هذا الماء بئراً .

والأمة : الجمع الكثير ، ومعنى عليه : أي على شفيره وحاشيته .

{ يسقون } : يعني مواشيهم .

{ ووجد من دونهم } : أي من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة ، فهما من دونهم بالإضافة إليه ، قاله ابن عطية .

وقال الزمخشري : في مكان أسفل من مكانهم .

{ تذودان } ، قال ابن عباس وغيره : تذودان غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء .

وقال قتادة : تذودان الناس عن غنمهما .

قال الزجاج : وكأنهما تكرهان المزاحمة على الماء .

وقيل : لئلا تختلط غنمهما بأغنامهم .

وقيل : تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما .

وقال الفراء : تحبسانها عن أن تتفرق ، واسم الصغرى عبرا ، واسم الكبر صبورا .

ولما رآهما موسى عليه السلام واقفتين لا تتقدمان للسقي ، سألهما فقال : { ما خطبكما } ؟ قال ابن عطية : والسؤال بالخطب إنما هو في مصاب ، أو مضطهد ، أو من يشفق عليه ، أو يأتي بمنكر من الأمر .

قال الزمخشري : وحقيقته : ما مخطوبكما ؟ أي ما مطلوبكما من الذياد ؟ سمى المخطوب خطباً ، كما سمى الشؤون شأناً في قولك : ما شأنك ؟ يقال : شانت شأنه ، أي قصدت قصده . انتهى .

وفي سؤاله عليه الصلاة والسلام دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعنّ ولم يكن لأبيهما أجير ، فكانتا تسوقان الغنم إلى الماء ، ولم تكن لهما قوة الإستقاء ، وكان الرعاة يستقون من البئر فيسقون مواشيهم ، فإذا صدروا ، فإن بقي في الحوض شيء سقتا .

فوافى موسى عليه السلام ذلك اليوم وهما يمنعان غنمهما عن الماء ، فرق عليهما وقال : { ما خطبكما } ؟ وقرأ شمر : بكسر الخاء ، أي من زوجكما ؟ ولم لا يسقي هو ؟ وهذه قراءة شاذة نادرة .

{ قالتا لا نسقي } .

وقرأ ابن مصرف : لا نسقي ، بضم النون .

وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، والحسن ، وقتادة ، والعربيان : يصدر ، بفتح الياء وضم الدال ، أي يصدرون بأغنامهم ؛ وباقي السبعة ، والأعرج ، وطلحة ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى : بضم الياء وكسر الدال ، أي يصدرون أغنامهم .

وقرأ الجمهور : الرعاء ، بكسر الراء : جمع تكسير .

قال الزمخشري : وأما الرعاء بالكسر فقياس ، كصيام وقيام . انتهى .

وليس بقياس ، لأنه جمع راع ؛ وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة ، كقاض وقضاة ، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس .

وقرىء : الرعاء ، بضم الراء ، وهو اسم جمع ، كالرخال والثناء .

قال أبو الفضل الرازي : وقرأ عياش ، عن أبي عمرو : الرعاء ، بفتح الراء ، وهو مصدر أقيم مقام الصفة ، فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه ، وقد يجوز أنه حذف منه المضاف .

{ وأبونا شيخ كبير } : اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما ، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخه وكبره ، واستعطاف لموسى في إعانتهما .