السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ} (23)

{ ولما ورد } أي : وصل { ماء مدين } وهو بئر كان يسقي منها الرعاة مواشيهم { وجد عليه } أي : الماء { أمّة } أي : جماعة كثيرة { من الناس } مختلفين { يسقون } أي : مواشيهم { ووجد من دونهم } أي : في مكان سواهم أسفل من مكانهم { امرأتين } عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنهما { تذودان } أي : تحبسان وتمنعان أغنامهما إذا فزعت من العطش إلى الماء حتى يفرغ الناس ويخلو لهما البئر ، وقال الحسن : تكفان الغنم لئلا تختلط بغنم الناس ، وقال قتادة : تكفان الناس عن أغنامهما ، وقيل : لئلا يختلطن بالرجال ، وقيل كانتا تذودان عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما ، وقيل غير ذلك فكأنه قيل فما قال موسى لهما قيل { قال } لهما رحمة لهما { ما خطبكما } أي : ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع

الناس { قالتا لا نسقي } أي : مواشينا وحذف للعلم به { حتى يصدر } أي : ينصرف ويرجع { الرعاء } أي : عن الماء خوف الزحام فنسقي ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر : بفتح الياء وضم الدال ، والباقون : بضم الياء وكسر الدال مضارع أصدر يعدى بالهمزة .

تنبيه : المفعول محذوف أي : يصدرون مواشيهم والرعاء جمع راع مثل تاجر وتجار ، أي : نحن امرأتان لا يليق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض { وأبونا شيخ كبير } أي : لا يستطيع لكبره أن يسقى فاضطررنا إلى ما ترى .

تنبيه : اختلف في أبيهما ، فقال مجاهد والضحاك والسدي والحسن : أبوهما هو شعيب النبيّ عليه السلام وإنه عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوّج بابنته ، وقال وهب وسعيد بن جبير : هو يثرون ابن أخي شعيب وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم ، وقيل : رجل ممن آمن بشعيب قالوا فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس ، وقال ابن إسحاق : أنّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين ، ويروى أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر ، وقيل : أربعون ، وقيل : مائة فجاء موسى ورفع الحجر وحده وسقى غنم المرأتين ويقال : إنه سألهم دلوا من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا اسق بها وكانت لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا فيه بالبركة فروى منه جميع الغنم ، فإن قيل كيف ساغ لنبيّ الله تعالى شعيب أن يرضى لابنتيه الرعي بالماشية ؟ .

أجيب : بأن الناس اختلفوا فيه هل هو شعيب أو غيره ، وإذا قلنا أنه هو كما عليه الأكثر فليس ذلك بمحظور فلا يأباه الدين ، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة وعادتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر لاسيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة .