الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ} (23)

أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج موسى عليه السلام خائفاً جائعاً ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين وعليه أمة من الناس يسقون ، وامرأتان جالستان بشياههما ، فسألهما ما خطبكما ؟ { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير } قال : فهل قربكما ماء قالتا : لا . . . إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر قال : فانطلقا فأريانيها . فانطلقتا معه فقلب بالصخرة بيده ، فنحاها ثم استقى لهما سجلاً واحداً فسقى الغنم ، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها ، ثم تولى إلى الظل فقال : { رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير } فسمعتا ما قال ، فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما ، فسألهما فاخبرتاه فقال لإِحداهما : انطلقي فادعيه فأتته فقالت : { إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } فمشت بين يديه فقال لها : امشي خلفي ، فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحل لي أن أنظر منك ما حرم الله علي ، وأرشديني الطريق .

{ فلما جاءه وقص عليه القصص . . . ، قالت إحداهما : يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } قال لها أبوها : ما رأيت من قوّته وأمانته ؟ فأخبرته بالأمر الذي كان قالت : أما قوّته فإنه قلب الحجر وحده ، وكان لا يقلبه إلا النفر . وأما أمانته فإنه قال : امشي خلفي وارشديني الطريق ، لأني امرؤ من عنصر إبراهيم عليه السلام ، لا يحل لي منك ما حرمه الله تعالى . قيل لابن عباس رضي الله عنهما . أي الأجلين قضى موسى عليه السلام ؟ قال : أبرهما وأوفاهما .

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ، فإذا هو بامرأتين { قال ما خطبكما } فحدثتاه . فأتى الصخرة فرفعها وحده ثم استسقى ، فلم يستق إلا دلواً واحداً حتى رويت الغنم .

فرجعت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه ، وتولى موسى عليه السلام إلى الظل { فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } قال : { فجاءته إحداهما تمشي على استحياء } واضعة ثوبها على وجهه ليست بسلفع من الناس خراجة ولاجة { قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } فقام معها موسى عليه السلام فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف جسدك . فلما انتهى إلى أبيها قص عليه فقالت احداهما { يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين } قال : يا بنية ما علمك بأمانته وقوته ؟ قالت : أما قوّته : فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرة رجال ، وأما أمانته ، فقال : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك فزاده ذلك رغبة فيه فقال { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } إلى قوله { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت قال موسى عليه السلام { ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي } قال : نعم . { قال الله على ما نقول وكيل } فزوّجه وأقام معه يكفيه ، ويعمل له في رعاية غنمه وما يحتاج إليه ، وزوّجه صفورا ، وأختها شرفا ، وهما التي كانتا تذودان .

وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { ولما ورد ماء مدين } قال : ورد الماء حيث ورد وأنه لتتراءى خضرة البقل من بطنه من الهزال .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج موسى عليه السلام من مصر إلى مدين وبينه وبينها ثمان ليال ، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ، وخرج إليها حافياً فما وصل حتى وقع خف قدمه .

وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة { ولما ورد ماء مدين } قال : كان مسيره خمسة وثلاثين يوماً .