فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ} (23)

{ ولما ورد ماء مدين } أي : وصل إليه وهو الماء الذي يستقون منه ، والمراد بالماء هنا بئر فيها ، صرح به الخازن والمحلي ، فهو من باب ذكر الحال وإرادة المحل ، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد ، وقد يطلق على البلوغ إليه وإن لم يدخل فيه وهو المراد هنا ، وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله : وإنا منكم إلا واردها ، وقيل : مدين اسم للقبيلة لا للقرية ، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين .

{ وجد عليه أمة } أي : وجد على الماء جماعة كثيرة لأن التنكير للتكثير { من الناس } أي من أناس مختلفين { يسقون } مواشيهم { ووجد من دونهم } أي : من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها وقيل : معناه في موضع أسفل منهم قاله أبو السعود ، وفي الخازن : في موضع بعيد منهم .

{ امرأتين تذودان } أي تحسبان أغنامهما من الماء ، حتى يفرغ الناس ، ويخلو بينهما وبين الماء ، وبه قال ابن عباس ، وورد الذود بمعنى الطرد ، أي تطردان ، وقيل : تكفان الغنم عن أن تختلط بأنغام الناس ، وقيل : تمنعان أغنامهما عن أن تند ، وتذهب ، والأول لقوله :

{ قال } موسى للمرأتين { ما خطبكما ؟ } أي : ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس ؟ والخطب الشأن ، قيل : وإنما يقال ما خطبك لمصاب أو لمضطهد أو لمن يأتي بمنكر .

{ قالتا } عادتنا التأني { لا نسقي حتى يصدر الرعاء } عن الماء ، وينصرفوا منه حذرا من مخالطتهم ، أو عجزا عن السقي معهم ، قرئ نسقي بفتح النون ، وبضمها من أسقى ، وقرئ يصدر من أصدر . ومن صدر يصدر لازما : أي : يرجعون مواشيهم ، والرعاء جمع راع على غير قياس ؛ لأن فاعلا الوصف المعتل اللام كقاض قياسه فعله نحو قضاة ورماة خلافا للزمخشري في أن جمعه على فعله على فعال قياس ، كصيام وقيام قال الكرخي . قرأ الجمهور : الرعاء بكسر الراء وقرئ بفتحها قال أبو الفضل : هو مصدر أقيم مقام الصفة فلذلك استوى فيه الواحد والجمع ، وقرئ الرعاء بالضم اسم جمع .

{ وأبونا شيخ كبير } عالي السن ، وهذا من تمام كلامهما إبداء منهما للعذر في مباشرة السقي أنفسهما أي : لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر ؛ فلذلك احتجنا ونحن امرأتان ضعيفتان مستورتان ؛ لا نقدر على مزاحمة الرجال وعلى أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك ، قيل : أبوهما شعيب وقيل : هو ثيرون ابن أخي شعيب ، وقيل : هو رجل ممن آمن بشعيب ، والأول أولى .

وإنما رضي شعيب لابنته بسقي الماشية ، لأن هذا الأمر في نفسه ليس بمحظور ، والدين لا يأباه . وأما المروءة عادات الناس في ذلك متباينة ، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر ، خصوصا إذا كانت الحالة حالة الضرورة ، فلما سمع موسى كلامهما رق لهما ورحمهما .