المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ} (23)

فمشى عليه السلام حتى ورد { مدين } أي بلغها ، و «وروده الماء » معناه بلغه لا أنه دخل فيه ، ولفظ «الورود » قد تكون بمعنى الدخول في المورود ، وقد تكون الإطلال عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل فيه فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه ، وهذه الوجوه في اللفظة تتأول في قوله تعالى { وإن منكم إلا واردها }{[9129]} [ مريم : 71 ] ، و { مدين } لا ينصرف إذ هي بلدة معروفة ، و «الأمة » الجمع الكثير ، و { يسقون } معناه ماشيتهم ، و { من دونهم } معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها فوصل إلى «المرأتين » قبل وصوله إلى الأمة وهكذا هما { من دونهم } بالإضافة إليه ، و { تذودان } معناه تمنعان وتحبسان ، ومنه قوله عليه السلام : «ألا ليذادن رجال عن حوضي » الحديث{[9130]} ، وشاهد الشعر في ذلك كثير ، وفي بعض المصاحف «امرأتين حابستين تذودان » ، واختلف في المذود ، فقال عباس وغيره { تذودان } غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء ، وقال قتادة { تذودان } الناس عن غنمهما ، فلما رأى موسى عليه السلام انتزاح المرأتين { قال ما خطبكما } أي ما أمركما وشأنكما ، وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب أو مضطهدٍ أو من يشفق عليه أو يأتي بمنكر من الأمر فكأنه بالجملة في شر فأخبرتاه بخبرهما ، وأن أباهما { شيخ كبير } فالمعنى أنه لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا يقدران على مزاحمة الأقوياء وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى ، وحينئذ تردان ، وقالت فرقة كانت الآبار مكشوفة وكان زحم{[9131]} الناس يمنعهما ، فلما أراد موسى أن يسقي لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى ، فعن هذا الغلب الذي كان منه ، وصفته إحداهما بالقوة ، وقالت فرقة : بل كانت آبارهم على أفواهها حجارة كبار وكان ورود المرأتين تتبع ما في صهاريج الشرب من الفضلات التي تبقى للسقاة وأن موسى عليه السلام عمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة ، قاله ابن زيد ، وقال ابن جريج : عشرة ، وقال ابن عباس : ثلاثون ، وقال الزجاج : أربعون ، فرفعه موسى وسقى للمرأتين ، فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة ، وقيل إن بئرهم كانت واحدة وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات ، وقرأ الجمهور «نسقي » بفتح النون ، وقرأ طلحة «نُسقي » بضمها ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر «حتى يَصدُر » بفتح الياء وضم الدال وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وقتادة ، وقرأ الباقون «يُصدِر » بضم الياء وكسر الدال على حذف المفعول تقديره مواشيهم وحذف المفعول كثير في القرآن والكلام ، وهي قراءة الأعرج وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق وعيسى ، و { الرعاء } جمع راع .


[9129]:من الآية 71 من سورة مريم.
[9130]:أخرجه مسلم ومالك في الطهارة، وابن ماجه في الزهد، ولفظه كما في مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لن يأتوا بعد، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يزاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا.
[9131]:زحم الناس: دفعهم، يقال: زحمه زحما وزحمة: دفعه في مضيق.