معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ} (55)

قوله تعالى : { والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } .

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن أبي بن سلول ، حين تبرأ عبادة من اليهود ، وقال : أتولى الله ورسوله والذين آمنوا ، فنزل فيهم من قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } ، إلى قوله : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } ، يعني عبادة بن الصامت ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال جابر بن عبد الله : جاء عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا ، وفارقونا ، وأقسموا أن لا يجالسونا ، فنزلت هذه الآية ، فقرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء . وعلى هذا التأويل أراد بقوله : { وهم راكعون } صلاة التطوع بالليل والنهار ، وقاله ابن عباس رضي الله عنهما . وقال السدي : قوله : { والذين آمنوا } .

قوله تعالى : { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } ، أراد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه . وقال جويبر عن الضحاك في قوله : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } ، قال : هم المؤمنون بعضهم أولياء بعض ، وقال أبو جعفر ، محمد بن علي الباقر : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } ، نزلت في المؤمنين ، فقيل له إن أناساً يقولون إنها نزلت في علي رضي الله عنه ، فقال : هو من المؤمنين .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ} (55)

{ 55 ، 56 ْ } { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ْ }

لما نهى عن ولاية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم ، وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين ، أخبر تعالى مَن يجب ويتعين توليه ، وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ْ } فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى . فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا ، ومن كان وليا لله فهو ولي لرسوله ، ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من تولاه ، وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا ، وأخلصوا للمعبود ، بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها ، وأحسنوا للخلق ، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم .

وقوله : { وَهُمْ رَاكِعُونَ ْ } أي : خاضعون لله ذليلون . فأداة الحصر في قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ْ } تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين ، والتبري من ولاية غيرهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ} (55)

51

ويحدد الله للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان ؛ ويبين لهم من يتولون :

( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )

هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ؛ ولا يترك فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور . .

ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك ! لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة . ومسألة الحركة بهذه العقيدة . وليكون الولاء لله خالصا ، والثقة به مطلقة ، وليكون الإسلام هو " الدين " . وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا ، ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة . ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ؛ فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة . ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ؛ لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة . .

ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان ، أو مجرد راية وشعار ، أو مجرد كلمة تقال باللسان ، أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة ، أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان ! فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا :

( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، وهم راكعون ) . .

فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا ، تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يقم الصلاة ؛ فلو أقامها لنهته كما يقول الله !

ومن صفتهم إيتاء الزكاة . . أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة . فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية ، إنما هي كذلك عبادة . أو هي عبادة مالية . وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي . الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة . وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف . .

إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة [ مدنية ! ] أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة ، أو باسم الشعب ، أو باسم جهة أرضية ما . . فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ؛ وهو إيصال المال للمحتاجين . .

فأما الزكاة . . فتعني اسمها ومدلولها . . إنها قبل كل شيء طهارة ونماء . . إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله . وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء ، بما أنها عبادة لله يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة ، كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك . ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم ؛ إذ يشعرون أنها فضل الله عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ؛ ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء [ مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال ] . . وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب . . جو الزكاة والطهارة والنماء . .

وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة الله في شئون الحياة ؛ فهي إقرار منهم بسلطان الله في أمرهم كله . . وهذا هو الإسلام . .

( وهم راكعون ) . .

ذلك شأنهم ، كأنه الحالة الأصلية لهم . . ومن ثم لم يقف عند قوله : ( يقيمون الصلاة ) . . فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل . إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم . فأبرز سمة لهم هي هذه السمة ، وبها يعرفون . .

وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ} (55)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } . .

يعني تعالى ذكره بقوله : إنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ليس لكم أيها المؤمنون ناصر إلاّ الله ورسوله والمؤمنون ، الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره . فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرءوا من ولايتهم ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء ، فليسوا لكم أولياء ولا نُصَراء ، بل بعضهم أولياء بعض ، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا . وقيل : إن هذه الاَية نزلت في عبادة بن الصامت في تبرئه من ولاية يهود بني قَينُقاع وحلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : ثني والدي إسحاق بن يسار ، عن ( عبادة بن الوليد ) بن عبادة بن الصامت ، قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج ، فخلعهم إلى رسول الله ، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وقال : أتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ففيه نزلت : إنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ لقول عبادة : أتولى الله ورسوله والذين آمنوا ، وتبرئه من بني قينقاع وولايتهم . إلى قوله : فإنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغالِبُونَ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد ، قال : جاء عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنء معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا يعني : أنه من أسلم تولى الله ورسوله .

وأما قوله : وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به ، فقال بعضهم : عُنِي به عليّ بن أبي طالب . وقال بعضهم : عُني به جميع المؤمنين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ثم أخبرهم بمن يتولاهم ، فقال : إنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ ويُؤْتُونَ الزّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ هؤلاء جميع المؤمنين ، ولكن عليّ بن أبي طالب مرّ به سائل وهو راكع في المسجد ، فأعطاه خاتمه .

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا عبدة ، عن عبد الملك ، عن أبي جعفر ، قال : سألته عن هذه الاَية : إنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ ويُؤْتُونَ الزّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ قلنا : من الذين آمنوا ؟ قال : الذين آمنوا قلنا : بلغنا أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب ، قال عليّ من الذين آمنوا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن عبد الملك ، قال : سألت أبا جعفر ، عن قول الله : إنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ، وذكر نحو حديث هناد عن عبدة .

حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، قال : حدثنا عتبة بن أبي حكيم في هذه الاَية : إنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا قال : علي بن أبي طالب .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا غالب بن عبيد الله ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : إنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ . . . الاَية ، قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب ، تصدّق وهو راكع .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ} (55)

{ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } لما نهى عن موالاة الكفرة ذكر عقبيه من هو حقيق بها ، وإنما قال { وليكم الله } ولم يقل أولياؤكم للتنبيه على أن الولاية لله سبحانه وتعالى على الأصالة ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على التبع . { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } صفة للذين آمنوا فإنه جرى مجرى الاسم ، أو بدل منه ويجوز نصبه ورفعه على المدح . { وهم راكعون } متخشعون في صلاتهم وزكاتهم ، وقيل هو حال مخصوصة بيؤتون ، أو يؤتون الزكاة في حال ركوعهم في الصلاة حرصا على الإحسان ومسارعه إليه ، وإنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته ، فطرح له خاتمه . واستدل بها الشيعة على إمامته زاعمين أن المراد بالولي المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها ، والظاهر ما ذكرناه مع أن حمل الجمع على الواحد أيضا خلاف الظاهر وإن صح أنه نزل فيه فلعله جيء بلفظ الجمع لترغيب الناس في مثل فعله فيندرجوا فيه ، وعلى هذا يكون دليل على أن الفعل القليل في الصلاة لا يبطلها وأن صدقة التطوع تسمى زكاة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ} (55)

الخطاب بقوله : { إنما وليكم الله } الآية للقوم الذين قيل لهم { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } [ المائدة : 51 ] ، و { إنما } في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى ، وولي اسم جنس{[4597]} ، وقرأ ابن مسعود «إنما مولاكم الله » وقوله : { والذين آمنوا } أي ومن آمن من الناس حقيقة لا نفاقاً وهم { الذين يقيمون الصلاة } المفروضة بجميع شروطها { ويؤتون الزكاة } ، وهي هنا لفظ عام للزكاة المفروضة وللتطوع بالصدقة ولكل أفعال البر ، إذ هي تنمية للحسنات مطهرة للمرء من دنس الذنوب ، فالمؤمنون يؤتون من ذلك كل بقدر استطاعته ، وقرأ ابن مسعود «آمنوا والذين يقيمون » بواو ، وقوله تعالى : { وهم راكعون } جملة معطوفة على جملة ، ومعناها وصفهم بتكثير الصلاة وخص الركوع بالذكر لكونه من أعظم أركان الصلاة ، وهو هيئة تواضع فعبر به عن جميع ، الصلاة ، كما قال { والُّرَّكع السجود }{[4598]} وهي عبارة عن المصلين ، وهذا قول جمهور المفسرين ، ولكن اتفق أن علياً بن أبي طالب أعطى صدقة وهو راكع ، قال السدي : هذه الآية في جميع المؤمنين ولكن علياً بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه ، وروي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من بيته وقد نزلت عليه الآية فوجد مسكيناً فقال له هل أعطاك أحد شيئاً فقال نعم ، أعطاني ذلك الرجل الذي يصلي خاتماً من فضة ، وأعطانيه وهو راكع ، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الرجل الذي أشار إليه علي بن أبي طالب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، الله أكبر وتلا الآية على الناس{[4599]} .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقال مجاهد : نزلت الآية في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع ، وفي هذا القول نظر ، والصحيح ما قدمناه من تأويل الجمهور ، وقد قيل لأبي جعفر نزلت هذه الآية في علي ، فقال علي من المؤمنين ، والواو على هذا القول في قوله { وهم } واو الحال ، وقام قوم نزلت الآية من أولها بسبب عبادة بن الصامت وتبرئه من بني قينقاع{[4597]} وقال ابن الكلبي نزلت بسبب قوم أسلموا من أهل الكتاب فجاؤوا فقالوا يا رسول الله بيوتنا بعيدة ولا متحدث لنا إلا مسجدك وقد أقسم قومنا أن لا يخالطونا ولا يوالونا ، فنزلت الآية مؤنسة لهم{[4598]} .


[4597]:- ولهذا جاءت بالإفراد، ولم يقل الله تعالى: {أولياؤكم} وإن كان المخبر به متعددا لأن [وليا] اسم جنس، أو لأن الولاية حقيقة هي لله تعالى على سبيل التأصل، ثم نظم في سلكه من ذكر على سبيل التبع، ولو ذكر جمعا لم يتبين هذا المعنى من الأصالة والتبعية. ذكر ذلك أبو حيان في "البحر".
[4598]:- من قوله تعالى في الآية (125) من سورة (البقرة): {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود}، أو من قوله في الآية (26) من سورة (الحج): {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود}.
[4599]:- الحديث مروي من طرق كثيرة مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ، فقد أخرجه الخطيب في المتفق- عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه الطبراني في الأوسط، وابن مردويه- عن عمار بن ياسر، وأخرج مثله أبو الشيخ وابن مردويه- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (الدر المنثور).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ} (55)

جملة { إنّما وليّكم الله ورسوله } إلى آخرها متّصلة بجملة { يأيّها الّذين آمنوا لا تَتّخذوا اليهود والنّصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } [ المائدة : 51 ] وما تفرّع عليها من قوله { فترى الّذين في قلوبهم مرض -إلى قوله- فأصبحوا خاسرين } [ المائدة : 52 ، 53 ] . وقعت جملة { يأيّها الّذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه } [ المائدة : 54 ] بين الآيات معترضة ، ثُمّ اتّصل الكلام بجملة { إنّما وليّكم الله ورسوله } . فموقع هذه الجملة موقع التّعليل للنّهي ، لأنّ ولايتهم لله ورسوله مقرّرة عندهم فمن كان اللّهُ وليّه لا تكون أعداءُ الله أولياءه . وتفيد هذه الجملة تأكيداً للنّهي عن ولاية اليهود والنّصارى . وفيه تنويه بالمؤمنين بأنّهم أولياء الله ورسوله بطريقة تأكيد النّفي أو النّهي بالأمر بضدّه ، لأنّ قوله : { إنّما وليّكم الله ورسوله } يتضمّن أمراً بتقرير هذه الولاية ودوامها ، فهو خبر مستعمل في معنى الأمر ، والقصر المستفاد من ( إنّما ) قصر صفة على موصوف قصراً حقيقياً .

ومعنى كون الّذين آمنوا أولياء للّذين آمنوا أنّ المؤمنين بعضُهم أولياء بعض ، كقوله تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } [ التوبة : 71 ] . وإجراء صفتي { يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة } على الذين آمنوا للثناء عليهم ، وكذلك جملة { وهم راكعون } .

وقوله : { وهم راكعون } معطوف على الصفة . وظاهر معنى هذه الجملة أنّها عين معنى قوله : { يقيمون الصّلاة } ، إذ المراد ب { راكعون } مصلّون لا آتُون بالجزء من الصلاة المسمّى بالركوع . فوجه هذا العطف : إمّا بأنّ المراد بالركوع ركوع النّوافل ، أي الّذين يقيمون الصّلوات الخمس المفروضة ويتقرّبون بالنوافل ؛ وإمّا المرادُ به ما تدلّ عليه الجملة الإسميّة من الدوام والثّبات ، أي الّذين يديمون إقامة الصّلاة . وعقّبه بأنّهم يؤتون الزّكاة مبادرة بالتنويه بالزّكاة ، كما هو دأب القرآن . وهو الّذي استنبطه أبو بكر رضي الله عنه إذ قال : « لأقاتلنّ مَن فرّق بين الصّلاة والزّكاة » . ثم أثنى الله عليهم بأنّهم لا يتخلّفون عن أداء الصّلاة ؛ فالواو عاطفة صفة على صفة ، ويجوز أن تجعل الجملة حالاً . ويراد بالركوع الخشوع .

ومن المفسّرين من جعل { وهم راكعون } حالاً من ضمير { يُؤتون الزّكاة } . وليس فيه معنى ، إذ تؤتى الزّكاة في حالة الركوع ، وركّبوا هذا المعنى على خبر تعدّدت رواياته وكلّها ضعيفة . قال ابن كثير : وليس يصحّ شيء منها بالكلّية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها . وقال ابن عطيّة : وفي هذا القول ، أي الرواية ، نظر ، قال : روى الحاكم وابن مردويه : جاء ابن سَلاَم ( أي عبد الله ) ونفَر من قومه الّذين آمنوا ( أي من اليهود ) فشكوا للرّسول صلى الله عليه وسلم بُعد منازلهم ومنابذة اليهود لهم فنزلت { إنّما وليّكم الله ورسوله } ثمّ إنّ الرسول خرج إلى المسجد فبصرُ بسائل ، فقال له : هل أعطاك أحد شيئاً ، فقال : نعم خاتم فضّة أعطانيه ذلك القائم يصلّي ، وأشار إلى عليّ ، فكبّر النّبيء صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية ، فتلاها رسول الله . وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق . وقيل : نزلت في المهاجرين والأنصار .