مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ} (55)

قوله تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }

وجه النظم أنه تعالى لما نهى في الآيات المتقدمة عن موالاة الكفار أمر في هذه الآية بموالاة من يجب موالاته وقال : { إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا } أي المؤمنون الموصوفون بالصفات المذكورة ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في قوله { والذين ءامنوا } قولان : الأول : أن المراد عامة المؤمنين ، وذلك لأن عبادة بن الصامت لما تبرأ من اليهود وقال : أنا بريء إلى الله من حلف قريظة والنضير ، وأتولى الله ورسوله نزلت هذه الآية على وفق قوله . وروي أيضا أن عبد الله بن سلام قال : يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل ، فنزلت هذه الآية ، فقال رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء ، فعلى هذا : الآية عامة في حق كل المؤمنين ، فكل من كان مؤمنا فهو ولي كل المؤمنين ، ونظيره قوله تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } وعلى هذا فقوله { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكواة } صفة لكل المؤمنين ، والمراد بذكر هذه الصفات تمييز المؤمنين عن المنافقين لأنهم كانوا يدعون الإيمان ، إلا أنهم ما كانوا مداومين على الصلوات والزكوات ، قال تعالى في صفة صلاتهم { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } وقال : { يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } وقال في صفة زكاتهم { أشحة على الخير } وأما قوله { وهم راكعون } ففيه على هذا القول وجوه : الأول : قال أبو مسلم : المراد من الركوع الخضوع ، يعني أنهم يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لجميع أوامر الله ونواهيه والثاني : أن يكون المراد : من شأنهم إقامة الصلاة ، وخص الركوع بالذكر تشريفا له كما في قوله { واركعوا مع الراكعين } والثالث : قال بعضهم : إن أصحابه كانوا عند نزول هذه الآية مختلفون في هذه الصفات ، منهم من قد أتم الصلاة ، ومنهم من دفع المال إلى الفقير ، ومنهم من كان بعد في الصلاة وكان راكعا ، فلما كانوا مختلفين في هذه الصفات لا جرم ذكر الله تعالى كل هذه الصفات .

القول الثاني : أن المراد من هذه الآية شخص معين ، وعلى هذا ففيه أقوال : روى عكرمة أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه . والثاني : روى عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام . روي أن عبد الله بن سلام قال : لما نزلت هذه الآية قلت يا رسول أنا رأيت عليا تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع ، فنحن نتولاه . وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فما أعطاني أحد شيئا ، وعلي عليه السلام كان راكعا ، فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :

«اللهم إن أخي موسى سألك » فقال : { رب اشرح لي صدري } إلى قوله { وأشركه في أمري } فأنزلت قرآنا ناطقا { سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا } اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري . قال أبو ذر : فوالله ما أتم رسول الله هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال : يا محمد إقرأ { إنما وليكم الله ورسوله } إلى أخرها ، فهذا مجموع مع يتعلق بالروايات في هذه المسألة .

المسألة الثانية : قالت الشيعة : هذه الآية دالة على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب ، وتقريره ، أن نقول : هذه الآية دالة على أن المراد بهذه الآية إمام ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون ذلك الإمام هو علي بن أبي طالب .

بيان المقام الأول : أن الولي في اللغة قد جاء بمعنى الناصر والمحب ، كما في قوله { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } وجاء بمعنى المتصرف . قال عليه الصلاة والسلام : «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها » فنقول : هاهنا وجهان : الأول : أن لفظ الولي جاء بهذين المعنيين ولم يعين الله مراده ، ولا منافاة بين المعنيين ، فوجب حمله عليهما ، فوجب دلالة الآية على أن المؤمنين المذكورين في الآية متصرفون في الأمة . الثاني : أن نقول : الولي في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر ، فوجب أن يكون بمعنى المتصرف ، وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر ، لأن الولاية المذكورة في هذه الآية غير عامة في كل المؤمنين ، بدليل أنه تعالى ذكر بكلمة { إنما } وكلمة { إنما } للحصر ، كقوله : { إنما الله إله واحد } والولاية بمعنى النصرة عامة لقوله { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } وهذا يوجب القطع بأن الولاية المذكورة في هذه الآية ليست بمعنى النصرة ، وإذا لم تكن بمعنى النصرة كانت بمعنى التصرف ، لأنه ليس للولي معنى سوى هذين ، فصار تقدير الآية : إنما المتصرف فيكم أيها المؤمنون هو الله ورسوله والمؤمنون الموصوفون بالصفة الفلانية ، وهذا يقتضي أن المؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية متصرفون في جميع الأمة ، ولا معنى للإمام إلا الإنسان الذي يكون متصرفا في كل الأمة ، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن الشخص المذكور فيها يجب أن يكون إمام الأمة .

أما بيان المقام الثاني : وهو أنه لما ثبت ما ذكرنا وجب أن يكون ذلك الإنسان هو علي بن أبي طالب ، وبيانه من وجوه : الأول : أن كل من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال : إن ذلك الشخص هو علي ، وقد ثبت بما قدمنا دلالة هذه الآية على إمامة شخص ، فوجب أن يكون ذلك الشخص هو علي ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق . الثاني : تظاهرت الروايات على أن هذه الآية نزلت في حق علي ، ولا يمكن المصير إلى قول من يقول : إنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، لأنها لو نزلت في حقه لدلت على إمامته ، وأجمعت الأمة على أن هذه الآية لا تدل على إمامته ، فبطل هذا القول ، والثالث : أن قوله { وهم راكعون } لا يجوز جعله عطفا على ما تقدم ، لأن الصلاة قد تقدمت ، والصلاة مشتملة على الركوع ، فكانت إعادة ذكر الركوع تكرارا ، فوجب جعله حالا أي يؤتون الزكاة حال كونهم راكعين ، وأجمعوا على أن إيتاء الزكاة حال الركوع لم يكن إلا في حق علي ، فكانت الآية مخصوصة به ودالة على إمامته من الوجه الذي قررناه ، وهذا حاصل استدلال القوم بهذه الآية على إمامة علي عليه السلام .

والجواب : أما حمل لفظ الولي على الناصر وعلى المتصرف معا فغير جائز ، لما ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز حمل اللفظ المشترك على مفهوميه معا .

أما الوجه الثاني : فنقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من لفظ الولي في هذه الآية الناصر والمحب ، ونحن نقيم الدلالة على أن حمل لفظ الولي على هذا المعنى أولى من حمله على معنى المتصرف . ثم نجيب عما قالوه فنقول : الذي يدل على أن حمله على الناصر أولى وجوه : الأول : أن اللائق بما قبل هذه الآية وبما بعدها ليس إلا هذا المعنى ، أما ما قبل هذه لآية فلأنه تعالى قال : { يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } وليس المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرفين في أرواحكم وأموالكم لأن بطلان هذا كالمعلوم بالضرورة ، بل المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أحبابا وأنصارا ، ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم ، ثم لما بالغ في النهي عن ذلك قال : إنما وليكم الله ورسوله والمؤمنون والموصوفون ، والظاهر أن الولاية المأمور بها هاهنا هي المنهي عنها فيما قبل ، ولما كانت الولاية المنهي عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النصرة ، وأما ما بعد هذه الآية فهي قوله { يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } فأعاد النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى والكفار أولياء ، ولا شك أن الولاية المنهي عنها هي الولاية بمعنى النصرة ، فكذلك الولاية في قوله { إنما وليكم الله } يجب أن تكون هي بمعنى النصرة ، وكل من أنصف وترك التعصب وتأمل في مقدمة الآية وفي مؤخرها قطع بأن الولي في قوله { إنما وليكم الله } ليس إلا بمعنى الناصر والمحب ، ولا يمكن أن يكون بمعنى الإمام ، لأن ذلك يكون إلقاء كلام أجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد ، وذلك يكون في غاية الركاكة والسقوط ، ويجب تنزيه كلام الله تعالى عنه .

الحجة الثانية : أنا لو حملنا الولاية على التصرف والإمامة لما كان المؤمنون المذكورين في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية ، لأن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ما كان نافذ التصرف حال حياة الرسول ، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنون موصوفين بالولاية في الحال ، أما لو حملنا الولاية على المحبة والنصرة كانت الولاية حاصلة في الحال ، فثبت أن حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التصرف ، والذي يؤكد ما قلناه أنه تعالى منع المؤمنين من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، ثم أمرهم بموالاة هؤلاء المؤمنين ، فلابد وأن تكون موالاة هؤلاء المؤمنين حاصلة في الحال حتى يكون النفي والإثبات متواردين على شيء واحد ، ولما كانت الولاية بمعنى التصرف غير حاصلة في الحال امتنع حمل الآية عليها .

الحجة الثالثة : أنه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع في سبعة مواضع وهي قوله { والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكواة وهم راكعون } وحمل ألفاظ الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظم لكنه مجاز لا حقيقة ، والأصل حمل الكلام على الحقيقة .

الحجة الرابعة : أنا قد بينا بالبرهان البين أن الآية المتقدمة وهي قوله { يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه } إلى آخر الآية من أقوى الدلائل على صحة إمامة أبي بكر ، فلو دلت هذه الآية على صحة إمامة علي بعد الرسول لزم التناقض بين الآيتين ، وذلك باطل ، فوجب القطع بأن هذه الآية لا دلالة فيها على أن عليا هو الإمام بعد الرسول .

الحجة الخامسة : أن علي بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض ، فلو كانت هذه الآية دالة على إمامته لاحتج بها في محفل من المحافل ، وليس للقوم أن يقولوا : إنه تركه للتقية فإنهم ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير ، وخبر المباهلة ، وجميع فضائله ومناقبه ، ولم يتمسك البتة بهذه الآية في إثبات إمامته ، وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم الله .

الحجة السادسة : هي أنها دالة على إمامة علي ، لكنا توافقنا على أنها عند نزولها ما دلت على حصول الإمامة في الحال : لأن عليا ما كان نافذ التصرف في الأمة حال حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلم يبق إلا أن تحمل الآية على أنها تدل على أن عليا سيصير إماما بعد ذلك ، ومتى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه ونحمله على إمامته بعد أبي بكر وعمر وعثمان ، إذ ليس في الآية ما يدل على تعيين الوقت ، فإن قالوا : الأمة في هذه الآية على قولين : منهم من قال : إنها لا تدل على إمامة علي ، ومنهم من قال : إنها تدل على إمامته ، وكل من قال بذلك قال : إنها تدل على إمامته بعد الرسول من غير فصل ، فالقول بدلالة الآية على إمامة علي لا على هذا الوجه ، قول ثالث ، وهو باطل لأنا نجيب عنه فنقول : ومن الذي أخبركم أنه ما كان أحد في الأمة قال هذا القول ، فإن من المحتمل ، بل من الظاهر أنه منذ استدل مستدل بهذه الآية على إمامة علي ، فإن السائل يورد على ذلك الاستدلال هذا السؤال ، فكان ذكر هذا الاحتمال وهذا السؤال مقرونا بذكر هذا الاستدلال .

الحجة السابعة : أن قوله : { إنما وليكم الله ورسوله } لا شك أنه خطاب مع الأمة ، وهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله ، وإنما ذكر الله تعالى هذا الكلام تطييبا لقلوب المؤمنين وتعريفا لهم بأنه لا حاجة بهم إلى اتخاذ الأحباب والأنصار من الكفار ، وذلك لأن من كان الله ورسوله ناصرا له ومعينا له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة من اليهود والنصارى وإذا كان كذلك كان المراد بقوله { إنما وليكم الله ورسوله } هو الولاية بمعنى النصرة والمحبة ، ولا شك أن لفظ الولي مذكور مرة واحدة ، فلما أريد به هاهنا معنى النصرة امتنع أن يراد به معنى التصرف لما ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا .

الحجة الثامنة : أنه تعالى مدح المؤمنين في الآية المتقدمة بقوله { يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } فإذا حملنا قوله { إنما وليكم الله ورسوله } على معنى المحبة والنصرة كان قوله { إنما وليكم الله ورسوله } يفيد فائدة قوله { يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } وقوله { يجاهدون في سبيل الله } يفيد فائدة قوله { يقيمون الصلاة ويؤتون الزكواة وهم راكعون } فكانت هذه الآية مطابقة لما قبلها مؤكدة لمعناها فكان ذلك أولى ، فثبت بهذه الوجوه أن الولاية المذكورة في هذه الآية يجب أن تكون بمعنى النصرة لا بمعنى التصرف .

أما الوجه الذي عولوا عليه وهو أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة ، والولاية بمعنى النصرة عامة ، فجوابه من وجهين :

الأول : لا نسلم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة ، ولا نسلم أن كلمة { إنما } للحصر ، والدليل عليه قوله { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل ، وقال : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها . الثاني : لا نسلم أن الولاية بمعنى النصرة عامة في كل المؤمنين ، وبيانه أنه تعالى قسم المؤمنين قسمين : أحدهما : الذين جعلهم موليا عليهم وهم المخاطبون بقوله { إنما وليكم الله } والثاني : الأولياء ، وهم المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، فإذا فسرنا الولاية هاهنا بمعنى النصرة كان المعنى أنه تعالى جعل أحد القسمين أنصارا للقسم الثاني . ونصرة القسم الثاني غير حاصلة لجميع المؤمنين ، ولو كان كذلك لزم في القسم الذي هم المنصورون أن يكونوا ناصرين لأنفسهم ، وذلك محال ، فثبت أن نصرة أحد قسمي الأمة غير ثابتة لكل الأمة ، بل مخصوصة بالقسم الثاني من الأمة ، فلم يلزم من كون الولاية المذكورة في هذه الآية خاصة أن لا تكون بمعنى النصرة ، وهذا جواب حسن دقيق لابد من التأمل فيه .

وأما استدلالهم بأن الآية نزلت في حق علي فهو ممنوع ، فقد بينا أن أكثر المفسرين زعموا أنه في حق الأمة ، والمراد أن الله تعالى أمر المسلم أن لا يتخذ الحبيب والناصر إلا من المسلمين ، ومنهم من يقول : إنها نزلت في حق أبي بكر .

وأما استدلالهم بأن الآية مختصة بمن أدى الزكاة في الركوع حال كونه في الركوع ، وذلك هو علي بن أبي طالب فنقول : هذا أيضا ضعيف من وجوه : الأول : أن الزكاة اسم للواجب لا للمندوب بدليل قوله تعالى { وآتوا الزكاة } فلو أنه أدى الزكاة الواجبة في حال كونه في الركوع لكان قد أخر أداء الزكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب ، وذلك عند أكثر العلماء معصية ، وإنه لا يجوز إسناده إلى علي عليه السلام ، وحمل الزكاة على الصدقة النافلة خلاف الأصل لما بينا أن قوله { وآتوا الزكاة } ظاهرة يدل على أن كل ما كان زكاة فهو واجب . الثاني : وهو أن اللائق بعلي عليه السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر الله حال ما يكون في الصلاة ، والظاهر أن من كان كذلك فإنه لا يتفرغ لاستماع كلام الغير ولفهمه ، ولهذا قال تعالى : { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق الله السموات والأرض } ومن كان قلبه مستغرقا في الفكر كيف يتفرغ لاستماع كلام الغير . الثالث : أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير عمل كثير ، واللائق بحال علي عليه السلام أن لا يفعل ذلك . الرابع : أن المشهور أنه عليه السلام كان فقيرا ولم يكن له مال تجب الزكاة فيه ، ولذلك فإنهم يقولون : أنه لما أعطى ثلاثة أقراص نزل فيه سورة { هل أتى } وذلك لا يمكن إلا إذا كان فقيرا ، فأما من كان له مال تجب فيه الزكاة يمتنع أن يستحق المدح العظيم المذكور في تلك السورة على إعطاء ثلاثة أقراص ، وإذا لم يكن له مال تجب فيه الزكاة امتنع حمل قوله { ويؤتون الزكواة وهم راكعون } عليه .

الوجه الخامس : هب أن المراد بهذه الآية هو علي بن أبي طالب لكنه لم يتم الاستدلال بالآية إلا إذا تم أن المراد بالولي هو المتصرف لا الناصر والمحب ، وقد سبق الكلام فيه .

المسألة الثالثة : اعلم أن الذين يقولون : المراد من قوله { ويؤتون الزكواة وهم راكعون } هو أنهم يؤتون الزكاة حال كونهم راكعين احتجوا بالآية على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة ، فإنه دفع الزكاة إلى السائل وهو في الصلاة ، ولا شك أنه نوى إيتاء الزكاة وهو في الصلاة ، فدل ذلك على أن هذه الأعمال لا تقطع الصلاة ، وبقي في الآية سؤالان .

السؤال الأول : المذكور في الآية هو الله تعالى ورسوله والمؤمنون ، فلم لم يقل : إنما أولياؤكم ؟

والجواب : أصل الكلام إنما وليكم الله ، فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة ، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله والمؤمنين على سبيل التبع ، ولو قيل : إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع ، وفي قراءة عبد الله : إنما مولاكم الله .

السؤال الثاني : { الذين يقيمون } ما محله ؟

الجواب : الرفع على البدل من { الذين آمنوا } أو يقال : التقدير : هم الذين يقيمون ، أو النصب على المدح ، والغرض من ذكره تمييز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان ويكون منافقا ، لأن ذلك الإخلاص إنما يعرف بكونه مواظبا على الصلاة في حال الركوع ، أي في حال الخضوع والخشوع والإخبات لله تعالى .