قوله تعالى : { الذين كفروا } . يعني مشركي العرب ، قال الكلبي : يعني اليهود . والكفر هو الجحود وأصله من الستر ومنه سمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء بظلمته وسمي الزارع كافراً لأنه يستر الحب بالتراب ، فالكافر يستر الحق بجحوده . والكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار ، وكفر جحود ، وكفر عناد ، وكفر نفاق . فكفر الإنكار هو : أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به وكفر به ، وكفر الجحود هو : أن يعرف الله تعالى بقلبه ولا يعترف بلسانه ككفر إبليس وكفر اليهود . قال الله تعالى : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) وكفر العناد هو : أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول :
ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وأما كفر النفاق فهو : أن يقر بلسانه ولا يعتقد بالقلب ، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له .
قوله تعالى : { سواء عليهم } . أي : متساو لديهم .
قوله تعالى : { أأنذرتهم } . خوفتهم وحذرتهم ، والإنذار إعلام مع تخويف ، المنذر معلم وليس كل معلم منذراً ، وحقق ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائي الهمزتين في ( أأنذرتهم ) وكذلك كل همزتين تقعان في أول الكلمة والآخرون يلينون الثانية .
قوله تعالى : { أم } . حرف عطف على الاستفهام .
قوله تعالى : { لم } . حرف جزم لا تلي إلا الفعل لأن الجزم يختص بالأفعال .
قوله تعالى : { تنذرهم لا يؤمنون } . وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } .
فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا ، ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم ، المعاندين للرسول فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يخبر تعالى أن الذين كفروا ، أي : اتصفوا بالكفر ، وانصبغوا به ، وصار وصفا لهم لازما ، لا يردعهم عنه رادع ، ولا ينجع فيهم وعظ ، إنهم مستمرون على كفرهم ، فسواء عليهم أأنذرتهم ، أم لم تنذرهم لا يؤمنون .
وحقيقة الكفر : هو الجحود لما جاء به الرسول ، أو جحد بعضه ، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة ، وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم ، وأنك لا تأس عليهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات .
فأما الصورة الثانية فهي صورة الكافرين . وهي تمثل مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين :
( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم ) . .
وهنا نجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة الكافرين . . فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين ، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين . إن النوافذ المفتوحة في أرواح المتقين ، والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود ، وبالظاهر والباطن والغيب والحاضر . . إن هذه النوافذ المفتحة كلها هناك ، مغلقة كلها هنا . وإن الوشائج الموصولة كلها هناك ، مقطوعة كلها هنا :
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية ، وفيمن نزلت ، فكان ابن عباس يقول ، كما :
حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا أي بما أنزل إليك من ربك ، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك . وكان ابن عباس يرى أن هذه الآية ، نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم توبيخا لهم في جحودهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتكذيبهم به ، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وإلى الناس كافة .
[ وحدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم ، وقد روى عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر وهو ما :
حدثنا به المثنى بن إبراهيم قال حدثنا عبد الله ابن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول وقال آخرون بما :
حدثت به عن عمار بن الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبى جعفر عن أبيه ، عن الربيع بن انس ، قال : آيتان في قاده الأحزاب : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) إلى قوله : ( ولهم عذاب عظيم ) قال وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار قال فهم الذين قتلوا يوم بدر .
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عنه وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب .
فأما مذهب من تأول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون وأن الإنذار غير نافعهم ثم كان من الكفار من قد نفعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه لايمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار وإذ كان ذلك كذلك وكانت قادة الأحزاب لا شك أنهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدر ، علم أنهم ممن عنى الله جل ثناؤه بهذه الآية .
وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك فهي أن قول الله جل ثناؤه ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله فأولى الأمور بحكمة الله أن يتلى ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم وذم أسبابهم وأحوالهم ، وإظهار شتمهم والبراءة منهم لان مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل .
وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه فيجهله عظم اليهود وتعلمه الأحبار منهم ، ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك هو الذي أنزل الكتاب على موسى إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي وأن ما جاء به من عند الله ، وأنى يمكنهم ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب فيقال قرأ الكتب فعلم أو حسب فنجم وانبعث على أحبار قراء كتبة قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم يخبرهم عن مستور عيوبهم ومصون علومهم ومكتوم أخبارهم وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم ، أن أمر من كان كذلك لغير مشكل وأن صدقه والحمد لله لبين .
ومما ينبئ عن صحة ما قلنا من ان الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه الصلاة والسلام بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن ابليس وآدم في قوله يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم الآيات ، واحتجاجه لنبيه عليهم بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته فإذا كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب وآخرا عن مشركيهم فأولى أن يكون وسطا عنهم إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع الا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدئ به من معانيه فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه .
وأما معنى الكفر في قوله ان الذين كفروا فإنه الجحود وذلك أن الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس وكتموا أمره وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .
وأصل الكفر عند العرب تغطية الشئ ولذلك سمو الليل كافر التغطية ظلمته ما لبسته كما قال الشاعر :
فتذكر ثقلا رثيدا بعد ما *** ألقت ذكاء يمينها في كافر
*** في ليلة كفر النجوم غمامها***
يعني غطاها فكذلك الأحبار من اليهود غطوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه الناس مع علمهم بنبوته ووجودهم صفته في كتبهم فقال الله جل ثناؤه فيهم إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون )
وتأويل سواء معتدل مأخوذ من التساوي كقولك متساو هذان الأمران عندي وهما عندي سواء أي هما متعادلان عندي ، ومنه قول الله جل ثناؤه فانبذ إليهم على سواء يعني أعلمهم وآذنهم بالحرب حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر . فكذلك قوله سواء عليهم معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم كانوا لا يؤمنون وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات .
تغذبي الشهباء نحو ابن جعفر *** سواء عليها ليلها ونهارها
يعني بذلك معتدل عندها في السير الليل والنهار لأنه لا فتور فيه ومنه قول الآخر
وليل يقول المرء من ظلماته *** سواء صحيحات العيون وعورها
لان الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته وأما قوله أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبر لأنه وقع موقع أي كما تقول لا نبالي أقمت أم قعدت وأنت مخبر لا مستفهم لوقوع ذلك موقع أي وذلك أن معناه إذا قلت ذلك ما نبالي أي هذين كان منك فكذلك ذلك في قوله سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لما كان معنى الكلام : سواء عليهم أي هذين كان منك إليهم حسن في موضعه مع سواء أفعلت أم لم تفعل .
وقد كان بعض نحويي البصرة يزعم أن حرف الاستفهام إنما دخل مع سواه وليس باستفهام لان المستفهم إذا استفهم غيره فقال أزيد عندك أم عمرو ومستثبت صاحبه أيهما عنده فليس أحدهما أحق بالاستفهام من الاخر ، فلما كان قوله سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم بمعنى التسوية أشبه ذلك الاستفهام إذ أشبهه في التسوية ، وقد بينا الصواب في ذلك ، فتأويل الكلام إذا : معتدل يا محمد على هؤلاء الذين جحدوا نبوتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك ، وأن يبينوه للناس ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم فأنهم لا يؤمنون ولا يرجعون إلى الحق ولا يصدقون بك وبما جئتهم به كما :
حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون أي إنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر وجحدوا ما أخذ عليهم من اليثاق لك فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك فكيف يسمعون منك إنذار وتحذيرا وقد كفروا بما عندهم من علمك .
{ إن الذين كفروا } لما ذكر خاصة عباده ، وخلاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح ، عقبهم بأضدادهم العتاة المردة ، الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر ، ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى ؛ { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } لتباينهما في الغرض ، فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه والأخرى مسوقة لشرح تمردهم ، وانهماكهم في الضلال ، و( إن ) من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء وإعطاء معانيه ، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين . ولذلك أعملت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذانا بأنه فرع في العمل دخيل فيه .
وقال الكوفيون : الخبر قبل دخولها كان مرفوعا بالخبرية ، وهي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف . وأجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان ، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف . وفائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها ، ولذلك يتلقى بها القسم ويصدر بها الأجوبة ، وتذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى : { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض } ، { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } قال المبرد ( قولك عبد الله قائم ، إخبار عن قيامه ، وإن عبد الله قائم ، جواب سائل عن قيامه ، وإن عبد الله لقائم ، جواب منكر لقيامه ) . وتعريف الموصول : إما للعهد ، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب ، وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، وأحبار اليهود . أو للجنس ، متناولا من صمم على الكفر ، وغيرهم فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه . والكفر لغة : ستر النعمة ، وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ، ومنه قيل للزارع ولليل كافر ، ولكمام الثمرة كافور . وفي الشرع : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به ، وإنما عد لبس الغيار وشد الزنار ونحوهما كفرا لأنها تدل على التكذيب ، فإن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجترئ عليها ظاهرا لا أنها كفر في أنفسها . واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه ، وأجيب بأنه مقتضى التعلق وحدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم .
{ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } خبر إن وسواء اسم بمعنى الاستواء ، نعت به كما نعت بالمصادر قال الله تعالى : { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } رفع بأنه خبر إن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه ، أو بأنه خبر لما بعده بمعنى : إنذارك وعدمه سيان عليهم ، والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له ، أما لو أطلق وأريد به اللفظ ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة ، والإسناد إليه كقوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا } وقوله : { يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه .
وإنما عدل ههنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة ، وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده ، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء ، كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة .
والإنذار : التخويف أريد به التخويف من عذاب الله ، وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس ، من حيث إن دفع الضر أهم من جلب النفع ، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى ، وقرئ { أأنذرتهم } بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين ، وقلبها ألفا وهو لحن لأن المتحركة لا تقلب ، ولأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده ، وبتوسيط ألف بينهما محققتين ، وبتوسيطها والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية ، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها .
{ لا يؤمنون } جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة . أو بدل عنه . أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم .
والآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان ، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا . وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان . والحق أن التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلا من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضا سيما الامتثال ، لكنه غير واقع للاستقراء ، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره ، وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجح إلزام الحجة ، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ ، ولذلك قال { سواء عليهم } ولم يقل سواء عليك . كما قال لعبدة الأصنام { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت، فكان ابن عباس يقول "إنّ الّذِينَ كَفَرُوا "أي بما أنزل إليك من ربك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك. وكان يرى أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم توبيخا لهم في جحودهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وإلى الناس كافة...
[وعن] ابن عباس أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم، وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر...؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
وقال آخرون: آيتان في قادة الأحزاب: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) إلى قوله: (ولهم عذاب عظيم) قال وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار "قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر.
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس، وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.
وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك فهي أن قول الله جل ثناؤه "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله، فأولى الأمور بحكمة الله أن يتلى ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم وذم أسبابهم وأحوالهم، وإظهار شتمهم والبراءة منهم لان مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل. وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه فيجهله [معظم] اليهود وتعلمه الأحبار منهم، ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك هو الذي أنزل الكتاب على موسى إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي وأن ما جاء به من عند الله، وأنى يمكنهم ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، فيقال قرأ الكتب فعلم أو حسب فنجم وانبعث على أحبار قراء كتبة قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم يخبرهم عن مستور عيوبهم ومصون علومهم ومكتوم أخبارهم وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم، أن أمر من كان كذلك لغير مشكل وأن صدقه والحمد لله لبين.
ومما ينبئ عن صحة ما قلنا من أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه، اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم، وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه الصلاة والسلام بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم في قوله "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم..." الآيات، واحتجاجه لنبيه عليهم بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته؛ فإذا كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب وآخرا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وسطا عنهم إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع إلا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدئ به من معانيه فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه.
وأما معنى الكفر في قوله "إن الذين كفروا" فإنه الجحود، وذلك أن الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس، وكتموا أمره وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم...
(سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) وتأويل سواء: معتدل، مأخوذ من التساوي، كقولك متساو هذان الأمران عندي، وهما عندي سواء، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: "فانبذ إليهم على سواء: يعني أعلمهم وآذنهم بالحرب حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر. فكذلك قوله: "سواء عليهم" معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم الإنذار أم ترك الإنذار، لأنهم كانوا لا يؤمنون وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم؛ وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يجدي عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وسكوته. والتعريف في {الذين كَفَرُواْ} يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولاً كلّ من صمم على كفره تصميماً لا يرعوي بعده وغيرهم.
والإنذار: التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
معنى الكفر مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر، ومنه سمي الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده. ومنه قيل للزراع كفار، لأنهم يغطون الحب. ف «كفر» في الدين معناه غطى على قلبه بالرِّين عن الإيمان، أو غطى الحق بأقواله وأفعاله.
وقوله تعالى: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" الإنذار: الإبلاغ والإعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز، كان إشعارا ولم يكن إنذارا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين، وكانوا قد انقسموا على مصارحين ومنافقين، وكان المنافقون قسمين؛ جهالاً من مشركي العرب، وعلماء من كفار بني إسرائيل. كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل البداءة أولاً بالمصارحين؛ فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف، على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام، فقال مخاطباً لأعظم المنعم عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال منه كأنه قال: هذا حال الكتاب للمؤمنين فما حاله للكافرين؟
{إن الذين كفروا} أي حكم، بكفرهم دائماً حكماً نفذ ومضى فستروا ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التي هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السياق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان على الدوام واللحاق بالختم والعذاب، ولعله عبر بالماضي والموضع للوصف تنفيراً من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل المنافقين وغيرهم.
ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد كان المعنى {سواء عليهم أأنذرتهم} أي إنذارك في هذا الوقت بهذا الكتاب {أم لم تنذرهم} أي وعدم إنذارك فيه و بعده.
وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام... ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهاماً لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد الملك يستفهمك عنه ما آمن.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وفائدةُ الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزامَ الحجةِ وإحرازَ الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الإبلاغ، ولذلك قيل: سواء عليهم، ولم يقل: عليك، كما قيل لعبَدة الأصنام {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} [الأعراف، الآية 193] وفي الآية الكريمة إخبارٌ بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ثم فائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا يثمر استخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء في المكلفين {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] فإن الله تعالى لو أدخل ابتداء كلا داره التي سبق العلم بأنه داره لكان شأن المعذب منهم ما وصف الله تعالى بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} [طه: 134] فأرسل رسلاً مبشرين ومنذرين ليتخرج ما في استعدادهم من الطوع والإباء فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة فإن الذكرى تنفع المؤمنين وتقوم به الحجة على الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع والإباء بحسب الاستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك بالمشيئة السابقة للعلم التابع للمعلوم الثابت الأزلي فيترتب عليه النفع والضرّ من الثواب والعقل وإنما قامت الحجة على الكافر لأن ما امتنع من الإتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور المعجزة من الإيمان لو كان ممتنعاً لذاته مطلقاً لما وقع من أحد لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشئ من استعداده الأزلي باختياره السيئ... والمستعد للغواية تعلق به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به العلم من مقتضيات الاستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء الله تعالى فصح أن لله الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن الله تعالى: {قَدْ أعطى كُلَّ شيء خَلْقَهُ} وما يقتضيه استعداده وما نقص منه شيئاً ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فمن وجد خيراً فليحمد الله» فإن الله متفضل بالإيجاد ولا واجب عليه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما اقتضته الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى استعداده فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال، وإنما قال سبحانه: {سَوَاء عَلَيْهِمْ} ولم يقل عليك لأن الإنذار وعدمه ليسا سواء لديه صلى الله عليه وسلم لفضيلة الإنذار الواجب عليه على تركه، وإذا أريد بالموصول ناس معينون على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لإخباره بالغيب وهو موت أولئك على الكفر كما كان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{(6) إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (7) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}. قال الأستاذ: كان الذي تقدم بيانا من الله تعالى لصنفين من الناس لهم في القرآن هداية ولنفوسهم إلى الاهتداء به انبعاث:
(الأول من الصنفين): أولئك الذين [بلغهم] لأول مرة، وهم ممن يخشى الله ويهاب سلطانه، وفي أصول اعتقادهم الإيمان بما وراء الحس...
(والثاني): أولئك الذين آمنوا بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله [وهذا الصنف قد يجتمع مع الذي قبله فيمن كانوا متقين مؤمنين بالغيب، ثم آمنوا بالنبي وبما جاء به، وقد يفترق الصنفان فيمن بقي إلى اليوم لم تبلغه الدعوة، وهو على تلك الأوصاف، ومن ولد من آباء مؤمنين ثم صدق إيمانه بعد أن بلغ رشده وملك عقله].
أما هاتان الآيتان فقد بينتا حال طائفة ثالثة من الناس، وهم الكافرون، ثم يبين قوله تعالى {ومن الناس من يقول} الخ حال طائفة أخرى أخص منها وهم المنافقون، الذين يظهر من أقوالهم وفي بعض أفعالهم أنهم مؤمنون، ولكنهم في حقيقة أمرهم كافرون، بل شر من الكافرين [فهذه أقسام أربعة ينقسم إليها الناس إذا بلغهم القرآن ونظروا فيه، ودعوا إلى الإيمان به والأخذ بهديه]. بين الله تعالى لنبيه أنه إذا كان يوجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس هذا عيبا وتقصيرا في هداية الكتاب، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب، لأنه هداية كسائر الهدايات الطبيعية التي أعرض الناس وعموا عنها [كهداية العقل والسمع والبصر ونحوها مما أكرم الله به هذا النوع البشري.
وقد يحكم الرجل بأن في العمل مضرة تلحق به، ومع ذلك يعدل عن حكمه انتهازا للذة زينها له حسه أو همه؛ ويأتي ذلك العمل على ما يعلم من سوء مغبته، فاحتقار الرجل لعقل نفسه لا يعد عيبا في تلك الموهبة الإلهية، ولا يحط من شأن النعمة فيها. انظر إلى رجل يغمض عينيه ويمشي في طريق لا يعرفها فيسقط في حفرة وتتحطم عظامه، هل ينقص ذلك من قدر بصره، ويبخس من حق الله في الإحسان به، على هذا الذي لم يرد أن يستعمله فيما خلق له] ففي الكلام تسلية لأهل الحق، وسيدهم هو النبي صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له أولا وبالأول.
{لا يؤمنون} أقول: هذه جملة مفسرة لتساوي الإنذار وعدمه في حقهم لا في حقه صلى الله عليه وسلم وحق دعاة دينه، فهم يدعون كل كافر إلى دين الله الحق، لأنهم لا يميزون بين المستعد للإيمان وغير المستعد له، إذ هو أمر لا يعلمه إلا الله تعالى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قال القرافي... أصل الكفر هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، ويكون بالجهل بالله وبصفاته، أو بالجرأة عليه. وهذا النوع هو المجال الصعب، لأن جميع المعاصي جرأة على الله... من علم الله عدم فعله لم يكلفه بخصوصه ولا وَجَّه له دعوة تخصه، إذ لم يثبت أن النبيء صلى الله عليه وسلم خص أفراداً بالدعوة إلاَّ وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب حين جاءه، بقوله: « أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إله إلا الله» وقوله لأبي سفيان يوم الفتح قريباً من تلكم المقالة، وخص عمه أبا طالب بمثلها، ولم تكن يومئذٍ قد نزلت هذه الآية، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية وبالدليل العقلي، فلم يبق إلا أن يقال لماذا لم يخصَّص مَن عُلم عدم امتثاله من عموم الدعوة، ودَفْعُ ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرئ غيرهم ويضعف إقامة الحجة عليهم، ويوهم عدم عموم الرسالة، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل بين ما في قدَره وعلمه، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف،...
بعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين وصفاتهم.. وجزائهم في الآخرة وما ينتظرهم من خير كبير.. أراد أن يعطينا تبارك وتعالى الصورة المقابلة وهم الكافرون.. وبين لنا أن الإيمان جاء ليهيمن على الجميع يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة.. فلابد أن يكون هناك شر يحاربه الإيمان.. ولولا وجود هذا الشر.. أكان هناك ضرورة للإيمان.. إن الإنسان المؤمن يقي نفسه ومجتمعه وعالمه من شرور يأتي بها الكفر..
والكافرون قسمان.. قسم كفر بالله أولا ثم استمع إلى كلام الله.. واستقبله بفطرته السليمة فاستجاب وآمن.. وصنف آخر مستفيد من الكفر ومن الطغيان ومن الظلم ومن أكل حقوق الناس وغير ذلك.. وهذا الصنف يعرف أن الإيمان إذا جاء فإنه سيسلبه جاها دنيويا ومكاسب يحققها ظلما وعدوانا..
إذن الذين يقفون أمام الإيمان هم المستفيدون من الكفر.. ولكن ماذا عن الذين كانوا كفارا واستقبلوا دين الله استقبالا صحيحا..
هؤلاء قد تتفتح قلوبهم فيؤمنون. والكفر معناه الستر.. ومعنى كفر (أي) ستر.. وكفر بالله أي ستر وجود الله جل جلاله.. والذي يستر لابد أن يستر موجودا، لأن الستر طارئ على الوجود.. والأصل في الكون هو الإيمان بالله.. وجاء الكفار يحاولون ستر وجود الله. فكأن الأصل هو الإيمان ثم طرأت الغفلة على الناس فستروا وجود الله سبحانه وتعالى.. ليبقوا على سلطانهم أو سيطرتهم أو استغلالهم أو استعلائهم على غيرهم من البشر..
ولفظ الكفر في ذاته يدل على أن الإيمان سبق ثم بعد ذلك جاء الكفر.. كيف؟..
لأن الخلق الأول وهو آدم الذي خلقه الله بيديه.. ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة.. وعلمه الأسماء كلها..
سجود الملائكة وتعليم الأسماء أمر مشهدي بالنسبة لآدم.. والكفر ساعتها لم يكن موجودا.. وكان المفروض أن آدم بعد أن نزل إلى الأرض واستقر فيها.. يلقن أبناءه منهج عبادة الله لأنه نزل ومعه المنهج في (افعل ولا تفعل) وكان على أبناء آدم أن يلقنوا أبناءهم المنهج وهكذا..
ولكن بمرور الزمن جاءت الغفلة في أن الإيمان يقيد حركة الناس في الكون.. فبدأ كل من يريد أن يخضع حياته لشهوة بلا قيود يتخذ طريق الكفر.. والعاقل حين يسمع كلمة كفر.. يجب عليه أن يتنبه إلى أن معناها ستر لموجود واجب الوجود.. فكيف يكفر الإنسان ويشارك في ستر ما هو موجود.. لذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "28 "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم "29 "}. (سورة البقرة).
وهكذا يأتي هذا السؤال.. ولا يستطيع الكافر له جوابا!! لأن الله هو الذي خلقه وأوجده.. ولا يستطيع أحد منا أن يدعي أنه خلق نفسه أو خلق غيره.. فالوجود بالذات دليل على قضية الإيمان.